المولد والنشأة ولد أحمد شوقي بحي الحنفي بالقاهرة في 16 من أكتوبر 1870م لأب شركسي وأم من أصول يونانية، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب من الغنى والثراء، فتكفلت بتربية حفيدها ونشأ معها في القصر، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتّاب الشيخ صالح، فحفظ قدرًا من القرآن وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بمدرسة المبتديان الابتدائية، وأظهر فيها نبوغًا واضحًا كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات المدرسة، وانكب على دواوين فحول الشعراء حفظًا واستظهارًا، فبدأ الشعر يجري على لسانه.
وبعد أن أنهى تعليمه بالمدرسة وهو في الخامسة عشرة من عمره التحق بمدرسة الحقوق سنة 1885م وانتسب إلى قسم الترجمة الذي قد أنشئ بها حديثًا، وفي هذه الفترة بدأت موهبته الشعرية تلفت نظر أستاذه الشيخ "محمد البسيوني"، ورأى فيه مشروع شاعر كبير، فشجّعه، وكان الشيخ بسيوني يُدّرس البلاغة في مدرسة الحقوق ويُنظِّم الشعر في مدح الخديوي توفيق في المناسبات، وبلغ من إعجابه بموهبة تلميذه أنه كان يعرض عليه قصائده قبل أن ينشرها في جريدة الوقائع المصرية، وأنه أثنى عليه في حضرة الخديوي، وأفهمه أنه جدير بالرعاية، وهو ما جعل الخديوي يدعوه لمقابلته.
وبعد عامين من الدراسة تخرّج من المدرسة، والتحق بقصر الخديوي توفيق، الذي ما لبث أن أرسله على نفقته الخاصة إلى فرنسا، فالتحق بجامعة "مونبلييه" لمدة عامين لدراسة القانون، ثم انتقل إلى جامعة باريس لاستكمال دراسته حتى حصل على إجازة الحقوق سنة (1311هـ = 1893م)، ثم مكث أربعة أشهر قبل أن يغادر فرنسا في دراسة الأدب الفرنسي دراسة جيدة ومطالعة إنتاج كبار الكتاب والشعر.
عاد شوقي إلى مصر فوجد الخديوي عباس حلمي يجلس على عرش مصر، فعيّنه بقسم الترجمة في القصر، ثم ما لم لبث أن توثَّقت علاقته بالخديوي الذي رأى في شعره عونًا له في صراعه مع الإنجليز، فقرَّبه إليه بعد أن ارتفعت منزلته عنده، وخصَّه الشاعر العظيم بمدائحه في غدوه ورواحه، وظل شوقي يعمل في القصر حتى خلع الإنجليز عباس الثاني عن عرش مصر، وأعلنوا الحماية عليها سنة (1941م)، وولّوا حسين كامل سلطنة مصر، وطلبوا من الشاعر مغادرة البلاد، فاختار النفي إلى برشلونة في إسبانيا
ودار شعر شوقي في هذه الفترة التي سبقت نفيه حول المديح؛ حيث غمر الخديوي عباس حلمي بمدائحه والدفاع عنه، وهجاء أعدائه، ولم يترك مناسبة إلا قدَّم فيها مدحه وتهنئته له، منذ أن جلس على عرش مصر حتى خُلع من الحكم، ويمتلئ الديوان بقصائد كثيرة من هذا الغرض.
ووقف شوقي مع الخديوي عباس حلمي في صراعه مع الإنجليز ومع من يوالونهم، لا نقمة على المحتلين فحسب، بل رعاية ودفاعًا عن ولي نعمته كذلك، فهاجم رياض باشا رئيس النُظّار حين ألقى خطابًا أثنى فيه على الإنجليز وأشاد بفضلهم على مصر، وقد هجاه شوقي بقصيدة عنيفة جاء فيها:
غمرت القوم إطراءً وحمـدًا وهم غمروك بالنعم الجسـام خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا أضيف إلى مصائبنا العظـام لهجت بالاحتلال ومـا أتـاه وجرحك منه لو أحسست دام
وبلغ من تشيعه للقصر وارتباطه بالخديوي أنه ذمَّ أحمد عرابي وهجاه بقصيدة موجعة، ولم يرث صديقه مصطفى كامل إلا بعد فترة، وكانت قد انقطعت علاقته بالخديوي بعد أن رفع الأخير يده عن مساندة الحركة الوطنية بعد سياسة الوفاق بين الإنجليز والقصر الملكي؛ ولذلك تأخر رثاء شوقي بعد أن استوثق من عدم إغضاب الخديوي، وجاء رثاؤه لمصطفى كامل شديد اللوعة صادق الأحزان، قوي الرنين، بديع السبك والنظم، وإن خلت قصيدته من الحديث عن زعامة مصطفى كامل وجهاده ضد المستعمر،ومطلع القصيدة:
المشرقـان علـيـك ينتحـبـان قاصيهمـا فـي مأتـم والــدان يا خادم الإسـلام أجـر مجاهـد في الله من خلد ومـن رضـوان لمّا نُعيت إلى الحجاز مشى الأسى فـي الزائريـن وروّع الحرمـان
وارتبط شوقي بدولة الخلافة العثمانية ارتباطًا وثيقًا، وكانت مصر تابعة لها، فأكثر من مدح سلطانها عبد الحميد الثاني؛ داعيًا المسلمين إلى الالتفات حولها؛ لأنها الرابطة التي تربطهم وتشد من أزرهم، فيقول:
أما الخلافة فهي حائط بيتكم حتى يبين الحشر عن أهواله لا تسمعوا للمرجفين وجهلهم فمصيبة الإسلام من جُهّالـه
وفي هذه الفترة نظم إسلامياته الرائعة، وتعد قصائده في مدح الرسول (صلى الله عليه وسلم) من أبدع شعره قوة في النظم، وصدقًا في العاطفة، وجمالاً في التصوير، وتجديدًا في الموضوع، ومن أشهر قصائده "نهج البردة" التي عارض فيها البوصيري في بردته، وحسبك أن يعجب بها شيخ الجامع الأزهر آنذاك محدث العصر الشيخ "سليم البشري" فينهض لشرحها وبيانها. يقول في مطلع القصيدة:
ريم على القاع بين البان والعلـم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
نظم شوقي أرجوزته "دول العرب وعظماء الإسلام"، وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد النبوة والخلافة الراشدة، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي، وقد نُشرت بعد وفاته.
أصبح شوقي بعد عودته شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها، لا تفوته مناسبة وطنية إلا شارك فيها بشعره، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته منزلة عالية، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر سنة (1346هـ = 1927م) في حفل أقيم بدار الأوبرا بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه "الشوقيات". وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه، وأعلن حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً:
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعيب شعر أميـر الدولتيـن ورجِّعـي أعيدي على الأسماع ما غردت به براعة شوقي في ابتداء ومقطـع أمير القوافي قـد أتيـت مبايعًـا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
مسرحيات شوقي
بلغ أحمد شوقي قمة مجده، وأحس أنه قد حقق كل أمانيه بعد أن بايعه شعراء العرب بإمارة الشعر، فبدأ يتجه إلى فن المسرحية الشعرية، وكان قد بدأ في ذلك أثناء إقامته في فرنسا لكنه عدل عنه إلى فن القصيد.
وأخذ ينشر على الناس مسرحياته الشعرية الرائعة، استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم، وهما: "مصرع كليوباترا" و"قمبيز"، والأولى منهما هي أولى مسرحياته ظهورًا، وواحدة من التاريخ الإسلامي هي "مجنون ليلى"، ومثلها من التاريخ العربي القديم هي "عنترة"، وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي "علي بك الكبير"، وله مسرحيتان هزليتان، هما: "الست هدي"، و"البخيلة".
مكانة شوقي
منح الله شوقي موهبة شعرية فذة، وبديهة سيالة، لا يجد عناء في نظم القصيدة، فدائمًا كانت المعاني تنثال عليه انثيالاً وكأنها المطر الهطول، يغمغم بالشعر ماشيًا أو جالسًا بين أصحابه، حاضرًا بينهم بشخصه غائبًا عنهم بفكره؛ ولهذا كان من أخصب شعراء العربية؛ إذ بلغ نتاجه الشعري ما يتجاوز ثلاثة وعشرين ألف بيت وخمسمائة بيت، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربي قديم أو حديث.
وكان شوقي مثقفًا ثقافة متنوعة الجوانب، فقد انكب على قراءة الشعر العربي في عصور ازدهاره، وصحب كبار شعرائه، وأدام النظر في مطالعة كتب اللغة والأدب، وكان ذا حافظة لاقطة لا تجد عناء في استظهار ما تقرأ؛ حتى قيل بأنه كان يحفظ أبوابًا كاملة من بعض المعاجم، وكان مغرمًا بالتاريخ يشهد على ذلك قصائده التي لا تخلو من إشارات تاريخية لا يعرفها إلا المتعمقون في دراسة التاريخ، وتدل رائعته الكبرى "كبار الحوادث في وادي النيل" التي نظمها وهو في شرخ الشباب على بصره بالتاريخ قديمه وحديثه.
وكان ذا حس لغوي مرهف وفطرة موسيقية بارعة في اختيار الألفاظ التي تتألف مع بعضها لتحدث النغم الذي يثير الطرب ويجذب الأسماع، فجاء شعره لحنًا صافيًا ونغمًا رائعًا لم تعرفه العربية إلا لقلة قليلة من فحول الشعراء.
وقد نظم الشعر العربي في كل أغراضه من مديح ورثاء وغزل، ووصف وحكمة، وله في ذلك أوابد رائعة ترفعه إلى قمة الشعر العربي، وله آثار نثرية كتبها في مطلع حياته الأدبية، مثل: "عذراء الهند"، ورواية "لادياس"، و"ورقة الآس"، و"أسواق الذهب"، وقد حاكى فيه كتاب "أطواق الذهب" للزمخشري، وما يشيع فيه من وعظ في عبارات مسجوعة.
وفاته
ظل شوقي محل تقدير الناس وموضع إعجابهم ولسان حالهم، حتى إن الموت فاجأه بعد فراغه من نظم قصيدة طويلة يحيي بها مشروع القرش الذي نهض به شباب مصر، وفاضت روحه الكريمة في (13 من جمادى الآخرة = 14 من أكتوبر 1932م ).