انا طبيب في الثانية والخمسين من
عمري أكتب إليك لكي أطلعك علي الفصل الثاني من قصتي,وكان الأستاذ الراحل
عبد الوهاب مطاوع قد نشر الفصل الأول منها منذ سبعة عشر عاما بعنوان نداء
المجهول.
وفيه رويت له حكايتي مع فتاتي البريئة التي رأيتها لأول مرة وهي طفلة في
منزل صديقي, وعرفت منه أنها أخته, وكانت تتمتع ببراءة شديدة ووجه طفولي
جميل, وجذبتني إليها, وملكت عقلي وتفكيري فرحت أطمئن عليها وأسأل شقيقها
عنها, ثم انشغلت في دراستي بكلية الطب لكن وجهها الملائكي لم يفارقني, وبعد
أن تخرجت وعملت طبيبا كانت هي قد التحقت بالجامعة, فطلبت يدها من صديقي,
وأبلغ أسرته برغبتي في الزواج منها فرحبت الأسرة, ولاحظت السعادة في
عينيها, ولا أستطيع أن أصف لك فرحتي بقبولها الارتباط بي, فلقد تأكدت يومها
أنها تكن لي المشاعر نفسها التي لم أستطع أن أبوح بها من قبل.. وظللنا
نترقب اليوم الذي تنهي فيه دراستها لكي نعقد القران ونقيم أسرتنا الصغيرة
التي طالما حلمت بها, وبعد أن تزوجنا مرت بعدة متاعب صحية قبل أن تحمل في
ابننا أحمد, ثم قبل أن يكمل عامه الأول كانت قد حملت في شقيقته أشرقت, ومرت
الأيام سريعا ـ وأنا أشعر أن شيئا ما سيحدث لنا, وأن زوجتي ستواجه مصيرا
غامضا. وتأكد ذلك عندما وقعت الكشف الطبي عليها, حيث انقبض صدري, وخفق قلبي
بشدة, وأنا أقول إنا لله وإنا إليه راجعون ولم تسمع زوجتي ما قلته, ولكنها
أحست بقلقي الذي لم أستطع أن أخفيه, والعجيب أنها هي التي راحت تهدئ روعي
وتطمئنني أن الأمر بسيط, وهيهات أن تنجح في ذلك والاحتمالات المخيفة لما
أوضحه الكشف الطبي تتراءي أمامي كالنذير المقبض.
ودار بيننا حوار صريح شرحت لها فيه مخاوفي وفقا للمعايير الطبية لكنها
بتلقائيتها ونقائها قالت لي انها راضية بما قسمه الله لها, وأنها حققت كل
ما كانت تصبو إليه من الحب والزواج والانجاب, ولم تعد تريد من الدنيا شيئا
سوي أن أرعي الله في ابني منها بعد الرحيل..
لقد سمعت كلماتها والدموع تنساب من عيني, وهي تستحلفني بالله ألا أحزن,
ولم تفارق الابتسامة البريئة شفتيها برغم كل ما كانت تعانيه من متاعب
وآلام..
وبعد هذه الجلسة بأيام قليلة أسلمت قرة عيني وحبيبتي الروح, وهي بين
ذراعي, ولم تكن قد أكملت الثامنة والعشرين من عمرها ـ وبرغم قوة إيماني
الذي دعوت الله أن يثبته إلا أنني وجدتني أمسك بالقلم وأكتب هذه التجربة
إلي بابكم الكريم من منطلق شعوري بأن من حقي عليكم أن أترقب منكم مشاركتي
في أحزاني وآلامي ومواساتي فيما أصابني بكلمة تعزية.. ولن أنسي تعليق
الراحل الكريم عبد الوهاب مطاوع وقوله لا بأس بأن تذرف الدموع علي فتاتك
الجميلة الطيبة, وأن تترجم وفاءك لها برعاية طفليك منها حق رعايتهما, وبأن
تحمل لزوجتك الراحلة دائما ومهما طال العمر أجمل الذكري وأرق المشاعر, لكن
حزن الأمس لابد أن يصبح بعد حين سلاما يا صديقي, ولابد ألا تعوقنا الأحزان
عن التواصل مع الحياة والانفتاح عليها والاستعداد لاستقبال مؤثراتها
الجديدة بعد أن تنتهي فترة رعاية الأحزان الضرورية, فهذه هي سنة الحياة,
ولا مهرب منها, ولا مفر, وأما زوجتك الطيبة المتدينة فهي ومثيلاتها
وأمثالها لهم دار السلام عند ربهم, وهو وليهم بما كانوا يعملون.. صدق الله
العظيم.
فقر أنت عينا بما نالت زوجتك من جوائز الدنيا والآخرة, وامض في طريقك
مشاركا في مباراة الحياة, ومتشاغلا بسباقها وشئونها وشئون طفليك عن كل
الأحزان.
وبعد أيام من نشر رسالتي اتصل بي مكتبكم, وجاءني صوت الأستاذ الكبير طالبا
مني زيارته لأمر مهم فذهبت إليه, فأطلعني علي مئات الرسائل التي طلب
أصحابها مساعدتي في الارتباط بمن تكمل معي الرسالة التي حملتني إياها زوجتي
الراحلة, وقد شكرت له وللجميع اهتمامهم بأمري, ووعدتهم بأنني سأنفذ ما
أوصتني به زوجتي وهي في فراش الموت ـ وهذا هو الفصل الثاني من قصتي التي
أكتب إليك به هذه الرسالة, فلقد تولت ابنة عمها وهي تصغرها بعدة سنوات
رعايتها خلال فترة مرضها, وأقامت معنا في المنزل إقامة كاملة في الشهرين
الأخيرين قبل وفاة زوجتي, التي طلبت مني قبل رحيلها بساعات أن تتولي ابنة
عمها رعاية الطفلين, ومازالت كلماتها ترن في أذني مفيش حد يربي أولادي غير
فلانة, فترقرقت الدموع في عيني, وأنا أشد علي يديها, وأؤكد لها أن الله
سبحانه وتعالي سيكون لطيفا ورحيما بنا من أجلها, وهي التي راعت ربها في كل
صغيرة وكبيرة, ولم تعرف يوما البغض ولا الكراهية, وبعد وفاتها قررت أن أقوم
بالمهمة وحدي, وظللت عاما كاملا أرعي شئونهما دون مشاركة من أحد, وقاسيت
كثيرا في التوفيق بين عملي وبيتي ومطالب طفلي, ثم وجدتني في مهب الريح,
وخشيت علي الأمانة التي تحملتها بمفردي, أن تضيع مني أو إن شئت قل لا
أؤديها علي أكمل وجه, ففكرت في وصية زوجتي الراحلة بأن أعرض الأمر علي ابنة
عمها, وكلي خوف أن ترفضني, فمن هي الإنسانة التي في سن العشرين أو أزيد
قليلا, وعشرات الشباب يخطبون ودها ويسعون للزواج منها, تقبل بالارتباط برجل
مثلي يكبرها بأكثر من عشر سنوات, ولديه طفلان, وقد انهكته التجربة التي مر
بها..
أقول لك لقد توكلت علي الله وتقدمت لها فإذا بها توافق من أجل أن تحمل
أمانة ابنة عمها أو قل أختها الكبري, وتزوجنا بعد عام ونصف العام علي رحيل
زوجتي, وكانت خير خلف لخير سلف, وراحت تؤدي رسالتها تجاه الطفلين بمنتهي
التفاني والصدق والإخلاص, لدرجة أنني خشيت من تدليلها المبالغ فيه لهما..
ومرت الأيام وحصل أحمد علي الثانوية العامة بمجموع قدره ستة وتسعون في
المائة, وكان قد برمج نفسه علي الالتحاق بكلية الطب التي عشقها منذ طفولته,
حيث كان يتردد علي المستشفي الذي أعمل به وأيضا العيادة, ولكن كيف يحقق
حلمه بهذا المجموع في ظل المجاميع الخيالية التي يحصل عليها الطلاب الآن,
والتي رفعت تنسيق الطب إلي تسعة وتسعين في المائة علي الأقل؟... وسألته:
ماذا ستفعل يا أحمد؟... فقال سأدخل الكلية التي تناسب مجموعي, قالها,
والدموع تملأ عينيه, ولاحظت الأسي علي وجهه, وفجأة قطعت زوجتي علينا
جلستنا, وقالت: أحمد سيدخل كلية الطب, وطلبت مني تقديم أوراقه في جامعة
خاصة, فقلت لها: أنت تعلمين كل شيء عن ظروفنا المادية, ولو الحقته بجامعة
بمصروفات خاصة سوف يؤثر ذلك علي شقيقته, وعلي أخواته الثلاث نورهان وآية
ومنة اللاتي رزقنا بهن, فردت علي ردا حسم الأمر بقولها: لأن يقال أن شقيق
بناتي في مركز مرموق يشار إليه بالبنان خير لي من كنوز الدنيا حتي لو
وضعتها بين أيديهن.. وحقق أحمد أمله, وأصبح الآن في السنة الرابعة.. وبعده
التحقت أشرقت. بإحدي كليات الطب الحكومية بفضل أمها بعد أمها التي كرست لها
كل وقتها, وقدمت لها من الرعاية والحنان, ربما أكثر من الرعاية التي كان
من الممكن أن تقدمها والدتها لها لو كانت علي قيد الحياة.
وهنا يا سيدي أريد أن أثير معك قضية مهمة تشغل بال الكثير من البيوت, وهي
قضية زوجة الأب التي يصورها البعض علي أنها الفك المفترس الذي ما إن يدخل
إلي عرين الزوج حتي يهجم علي أبنائه من زوجته السابقة, فيفترسهم, بعد أن
يذيقهم العذاب ألوانا وأشكالا, ويتسبب في تشريدهم وضياع مستقبلهم, ويسعي
إلي إحداث القطيعة بينهم وبين أبيهم, فالتجربة التي مررت بها تؤكد عكس هذا
الاعتقاد الخاطئ, وأحمد الله أن زوجتي حملت الأمانة التي القتها علي
عاتقها, ابنة عمها الراحلة عندما اشارت علي بأن أوكل إليها أمر طفلي منها..
وقد أردت اطلاعك وقرائك الكرام علي الفصل الثاني من قصتي, وأن أثلج صدوركم
بما وصل إليه أحمد وأشرقت.. وأرجو أن تهنأ روح زوجتي الراحلة بما قدمت
ابنة عمها لطفليها اللذين أصبحا صاحبي شأن الآن بين اقرانهما.. وأسأل الله
أن يتم نعمته علينا, ولك ولكل قرائك ومحبيك التحية والسلام.
<< ولكاتب هذه الرسالة أقول:
ذكرتني رسالتك الجميلة وحبك الصادق لفتاتك البريئة التي جذبتك منذ الطفولة
بوجهها الهادئ الذي يفيض بالبشر والسرور بقول المفكر الراحل عباس محمود
العقاد:
لست أهواك للجمال وإن كان
جميلا ذلك المحيا العفوف
لست أهواك للدلال وإن كان
ظريفا يصبو اليه الظريف
لست أهواك للذكاء وإن كان
ذكاء يسبي النهي ويشوف
أنا أهواك أنت.. أنت لا شئ سوي أنت بالفؤاد يطوف.
نعم ياسيدي فهي الفتاة والزوجة والحبيبة
التي طاف بها فؤادك, ووجد فيها الحب والحياة والأمل, ولما أيقنت بروحها
الشفافة أن النهاية قريبة, وأحست بدنو أجلها, لفتت نظرك إلي من هي قادرة
علي حمل الأمانة باخلاص واستكمال مشوار تربية إبنيها, فالواضح من ثنايا
كلماتك أن ابنة عمها كانت بالنسبة لها توءم روحها, ووجدت في نقاء سريرتها
ما يزكيها لأن تقوم بدور الأم بديلا عنها, وصدق ما استقر في قلبها تجاهها,
فها هي ابنة عمها تكون عند ظنها بها, حيث أثرت الارتباط بك علي غيرك من
الشباب الذين راحوا يخطبون ودها برغم ظروفك الصعبة لكي تربي الطفلين اللذين
حملتها الراحلة أمانة تربيتهما, وأدت دورها كما ينبغي أن يكون حتي التحقا
بكلية الطب وصار لها خمسة أبناء بعد انجابها زهراتها الثلاث.
حقا ما أروع صنيع زوجتك, وما أجمل الاستقرار في كنف زوجة تراعي ربها
وتتطلع إلي رضاه ولقد ضربت المثل للأخريات ممن يعيشن ظروفا مماثلة كيف تكون
زوجة الأب أما ثانية, وأنه لا يمكن التعميم بأن من تحتل موقع الأم تضمر
لأبناء زوجها الحقد والكراهية والضغينة وتحيل حياتهم إلي عذاب, فلكل حالة
ظروفها, ويتوقف الأمر في النهاية علي اختيار الأب زوجة أخري له بعد الزوجة
الراحلة أو السابقة, فتدقيق الاختيار هو العامل الفاصل في هذه المسألة,
وليس أدل علي ذلك من تجربتك, حيث أنك أجلت موضوع الارتباط لمدة عام بعد
رحيل زوجتك برغم أن المؤشرات كلها كانت تصب في خانة أبنة عمها إلي جانب
العروض الكثيرة التي جاءتك من الكثيرات عقب نشر رسالتك في بريد الجمعة,
وهكذا يكون تحكيم العقل أمرا مهما قبل الاقدام علي الزواج خصوصا في مثل هذه
الظروف.
لقد بذلت كل جهدك واستعنت بالله سبحانه وتعالي وتوكلت عليه, ورضيت بقضائه,
فكافأك بالرضا والطمأنينة, وكان مبعث سعادتك هو زوجتك الراحلة ثم الحالية
وأولادك الذين يسلكون الطريق الصحيح بحسن تربيتهم وتوجيههم, وهي سعادة
تجعلك قادرا علي تحمل المصاعب, وعدم الشعور بالخوف مهما اشتدت الابتلاءات,
وصدق الله العظيم إذ يقول فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون, ويقول
أيضا الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله, ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
وتبقي الحقيقة التي يغفلها الكثيرون وهي أن الإيمان هو الذي يحرر الإنسان
من كل حزن وقلق, وأنه لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا, وسوف يظل الاعتصام به
والتوكل عليه هو منهج الحياة القويم, وسر السعادة والقوة الخفية لتحقيق
الأهداف والأماني.
فاسعد بزوجتك وأبنائك, وواصل سعيك في الحياة بنفس العزيمة والاصرار
والإيمان بالله, وقد آن لك أن تهدأ بالا بعد أن قطعت شوطا كبيرا في المهمة
التي تركتها لك زوجتك الراحلة, وتسلحت بزوجتك الثانية التي حملت المسئولية
باقتدار, فهي نعم الزوجة والأم, وسوف تأتيها جوائز السماء تباعا جزاء
صنيعها الرائع ونقاء معدنها الأصيل, والحمد لله رب العالمين.