ما أقسي الطعنات عندما يصوبها إليك أقرب الناس, وما أبشع الجحود عندما يكون من الأهل والأحباب.. لقد استرجعت شريطا طويلا من الذكريات, وأنا جالس في غرفتي يوم عيد ميلادي السبعين, ووجدتني أكتب إليك هذه الرسالة..
لكي أفرغ فيها آلامي النفسية مما عانيته علي مدار سنوات عمري, حيث انني الشقيق الأكبر لعشرة من البنين والبنات, وقد نشأنا في حي شعبي بإحدي مدن الدلتا لأب بسيط يعمل في احدي الشركات بمرتب من الجنيهات يقل عن عدد أفراد الأسرة, وأم ربة منزل لا تغادره ليلا ولا نهارا.
ومرت بي الأيام ثقيلة, فمنذ صغري وأنا ألمس العبء الشديد الملقي علي عاتق أبي, وعندما حصلت علي الشهادة الاعدادية بمجموع عال, كان الطبيعي أن أتجه إلي الثانوي العام حتي أحقق طموحي مثل كل الطلبة المتفوقين في الالتحاق بالجامعة, لكن أبي طلب مني تقديم أوراقي إلي المدرسة التجارية قائلا لي: انه يحجز لي وظيفتي في الشركة التي يعمل بها, فنفذت له رغبته, واهتممت بالمذاكرة كما أفعل منذ التحاقي بالمدرسة, وكنت من أوائل دبلوم الثانوي التجاري.. مما أهلني للعمل بأكبر مؤسسة مالية, وانعكس وضعي الجديد علي أسرتي, وعزمت علي أن يكون جميع اخوتي في مراكز مرموقة ومستوي أفضل مني, ولم أتدخل في المدي التعليمي لكل منهم, بل تركت لهم الفرصة لكي يحققوا ما أرادوا, ولم أفكر في الزواج إلا بعد خمسة عشر عاما من العمل, وكنت وقتها في الرابعة والثلاثين من عمري.
وخلال هذه الفترة استطعت بفضل الله تزويج اخواتي البنات, وصرن في وضع اجتماعي جيد وكانت تكفيني سعادة أبي, عندما أجد ابتسامة الرضا علي شفتيه كلما صنعت شيئا لأحد اخوتي.. والحقيقة انني ظللت أفعل هذا بصورة تلقائية وبصدق نابع من داخلي, وما أجمل احساسي برضا الله عني جزاء ما أقدمه لأسرتي, ولذلك لم يشغلني شئ سواهم, وحتي عندما تزوجت, فإنني أقدمت علي هذه الخطوة بإلحاح من أبي حيث شاور والدتي في الأمر, واختارا لي زوجتي من بين فتيات كثيرات من الأقارب والجيران والمعارف, وهي زميلة لي بنفس القطاع الذي أعمل به, ومن فضل الله علي أن وهبني إياها, إذ اجتمعت فيها كل معاني الاخلاص والمودة وحسن العشرة وطيب الخصال, وكأن المولي عز وجل أراد أن يعوضني بها عما لاقيته من متاعب وأوجاع, وأن يضيء لي علي يديها مصابيح الحياة التي أظلمت في وجهي, أو خيل لي ذلك.. انها مكافأتي السخية التي نزلت علي بردا وسلاما, بعد أن أراد سبحانه وتعالي أن يبدل أحوالي إلي الأفضل, حيث ابتسمت لي الدنيا, وتدرجت في الوظائف بشركتي ووصلت إلي أعلاها, واستتبع هذا الترقي دخل مادي كبير, ورزقني الله بولدين, وصارت لي ولزوجتي ذمة مالية واحدة, فلم يخف أي منا عن الآخر شيئا من دخله, ومضت حياتنا علي هذا النهج الواحد, واستطعنا تربية ولدينا أحسن تربية ورزقنا الله منهما بالأحفاد, وبنينا فيلا من ثلاثة أدوار, وخصصنا لكل منهما دور كامل مؤثث بأفخر أنواع الأثاث وجراج لكل شقة, واطمأننت علي جميع أخوتي الذين صار لكل منهم بيته وحياته المستقلة, وكلهم مرتاحون ماديا بفضل الله.
ومنذ عشر سنوات خرجت إلي المعاش وحصلت علي مكافأة نهاية الخدمة, وهي مبلغ كبير, وأحيلت زوجتي إلي التقاعد هي الأخري ونالت مبلغا يفوق مكافأتي, وكتبنا لولدينا كل ما نملك, ونحن مطمئنان إلي أنهما سيكونان حريصين علي هذه الأموال, فلقد ربيتهما علي عدم البذخ عملا بقوله تعالي ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا.
وبرغم سعادتي بما حققته مع أسرتي, فإن ما يحزنني ويجدد آلامي انني تلفت حولي, فلم أجد أحدا من أخوتي, حيث لا يزورني أي منهم, ولا يطمئنون علي, ولو باتصال تليفوني, بعد أن وصلوا إلي مراكز اجتماعية ممتازة, وأصبحوا في غني عني, وكنت أظنهم سوف يقتربون مني أكثر, وأنا في هذه السن الكبيرة, بل إن ما حدث من أختي الصغري قد فاق كل تصور, ولم يخطر ببالي علي مر السنين والأيام, حيث كان زوجها يشغل مركزا مرموقا, ثم اتجه إلي اقران السوء, وعرف طريق الإدمان, فتم الاستغناء عنه في الجهة التي يعمل بها, وأصبح عاطلا, وصار عالمه بين المدمنين والعاطلين, وقد جاءتني باكية مما آلت إليه حاله, فهدأت من روعها, وتكفلت برعايتها هي وابنيها, وخصصت لهم مبلغا شهريا إلي جانب متطلبات المعيشة والعلاج, وكان لها معي سبعة عشر ألف جنيه منذ سنوات طويلة وبناء علي رغبتها اشتريت باسمها عددا من الأسهم في احدي شركات البورصة, ولكن هبطت أسهمها بشدة إبان الأزمة العالمية التي ألمت بالاقتصاد منذ خمسة عشر عاما, ثم اكملت ثورة يناير علي ما تبقي من قيمتها حتي صارت ألفي جنيه تقريبا الآن, وهذا بالطبع ليس لي يد فيه, فالأسهم موجودة باسمها في الشركة نفسها واشتريتها بالمبلغ الذي كانت تساويه وقتها, ولم يتم التعامل عليها لا بالبيع ولا الشراء, وبالتالي فإن قيمتها تصعد وتهبط وفقا لآليات السوق.. وقد نسينا هذا الأمر تماما, وظللت أصرف علي أسرتها من مالي الخاص ابتغاء وجه الله, لكني فوجئت بها ترسل زوجها إلي شقيقنا الذي يصغرني بعدة سنوات, لكي يهددني بخطف أي من أولادي أو أحفادي إذا لم أعطه المبلغ الذي أودعته أختي في البورصة كاملا قائلا له: إنه لا دخل بالتعاملات التي تمت علي المبلغ!!.. واتصل بي أخي حاملا هذا التهديد, فاستغربت جدا من موقف أختي التي تعرف الحقيقة جيدا, وتتلقي مني مبالغ كبيرة بعيدا عن هذه المسألة التي لا ذنب لي فيها, وقلت في نفسي: لو أنها طلبت مني هذا المبلغ لأعطيته لها, بل وأكثر منه, بعيدا عن التهديد الذي بعثت لي زوجها به.. لقد دار ذلك في ذهني, وأنا مع أخي علي الهاتف, لكني لم أبح له بما حدثت به نفسي وإنما قلت له, إنني سوف أبلغ الشرطة. وأنت شاهد علي ما قاله زوج أختك, فإذا به يرد علي: لن أشهد بأي شئ, ولا علاقة لي بهذا الموضوع.
وليس هو وحده الذي اتخذ هذا الموقف, بل إن جميع أخوتي التسعة لم يكترثوا لهذا التهديد!!
لقد أعطيت أختي المبلغ الذي طلبته علي لسان زوجها, ويبدو أنه وجدها فرصة للضغط علي كلما أراد أموال, إذ أنه مازال يحاول ابتزازي وارهابي بنفس الأسلوب عن طريق رسائل شفهية عبر أخوتي, وهم لا يلقون بالا لما قد يفعله بأولاء وأحفادي!
أرأيت جحودا مثل هذا الجحود من أخوة تجاه أخيهم الأكبر الذي تفاني في تربيتهم, وكان لهم بمثابة الأب الثاني, وانتشلهم من براثن الفقر مضحيا بطموحه العلمي, ولم يتركهم حتي الآن في الوقت الذي تخلوا فيه عنه انسانيا وأدبيا, وهو في هذه السن.. إنني لا أريد منهم مساعدة ولا مالا, وبامكاني أن أعطيهم ما يريدون.. لكن جفاءهم لي ونكرانهم لما أسديته لهم من عطاء هو الذي يحز في نفسي, ويجعل ابتسامتي حزينة علي ما آلت إليه علاقتنا الأسرية, ولا أدري لماذا كل هذا الحقد علي أنا وأولادي, ثم ماذا يفعل من تضعه أقداره في نفس موضعي؟ هل يكرر صنيعي, ويلقي ما لقيته من نكران وجحود؟.. أم يتجاهل أخوته لأنه لن يجني منهم في المستقبل سوي الكراهية إذا أكرمه الله وأنعم عليه كما حدث لي؟..
<<ولكاتب هذه الرسالة أقول: لقد قدمت لإخوتك ما لا يقدمه الكثيرون لآبائهم وأمهاتهم, وكان واجبا عليهم أن يحافظوا علي التواصل الانساني معك, إذ أنك لست بحاجة إلي مساعدة مادية منهم, بل كل ما تريده هو أن يزوروك من باب صلة الرحم التي أوصانا بها الحق تبارك وتعالي, والحقيقة أنني أقدر حجم الألم الذي أصابك من نكرانهم الجميل وجحودهم الذي يفوق الخيال, ولكن لا يندم من هو مثلك علي عمل صالح قدمه للآخرين, فما بالك إذا كان قد قدمه لاخوته, وأتذكر هنا قولا بليغا لمن أنشد قائلا:
أيا عجبا لمن ربيت طفلا
القمه بأطراف البنان
أعلمه الرماية كل يوم
فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي
فلما قال قافية هجاني
فالواضح يا سيدي أن ما قدمته من عطاء لاخوتك علي حساب نفسك ومستقبلك لم يثمر فيهم فتنكروا لك. ومنهم من أساء إليك كما فعلت أختك التي كنت تعطيها مبلغا شهريا ثابتا, وتوفر لها ما تحتاجه من متطلبات المعيشة والعلاج بعد أن أصبح زوجها مدمنا لا عمل له, فإذا بها تطلب ثمن الأسهم التي أشتريتها لها في البورصة وهي تعلم أنها صاحبة الأسهم, وأنك كنت مجرد وسيط لاستثمار هذا المبلغ, ولا شأن لك بحسابات المكسب والخسارة, ومع ذلك أعطيته لها, وكان بإمكانك أن تعطيها ما يزيد عنه لو أنها جاءتك وشرحت لك الظروف التي تعيشها مع زوجها, إلا أنها لم تفعل بما يعني أنها وافقت علي جرائمه في حقك من تهديد وابتزاز!
وبصفتك الأب الثاني لاخوتك, وقد ضحيت من أجلهم بالكثير من المال والأماني, فإن ما يفعلونه معك يدخل في باب العقوق, وما أشبه قلب العاق بالصحراء التي تشرب بنهم مطر السماء وتبتلعه ثم لا تنتج شيئا ـ علي حد تعبير ستنداك, فلا تلقي لهم بالا, وعليهم أن يحذروا تقلبات الدهر, إذ سوف يتجرعون يوما ما كأس الجحود علي أيدي أبنائهم, أو من قدموا لهم معروفا, فالإنسان كما يدين يدان.
.. وقد دعانا رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي الاعتراف بالجميل, فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله قال من أعطي عطاء فوجد, فليجز به, ومن لم يجد فليثن فإن من أثني, فقد شكر, ومن كتم فقد كفر, ومن تحلي بما لم يعطه كان كلابس ثوبي زور, فالنفوس الكريمة لا تعرف النكران, وهي دائما وفية معترفة بالفضل لذويه.
فليراجع اشقاؤك موقفهم منك, ولتعلم أختك الصغري أنها خسرت الكثير برعونتها وانقيادها لزوجها, أما التهديد بخطف أحد أولادك أو أحفادك بعد أن أعطيت أختك ما أراد زوجها من مال ليس حقا لهما, فإنه يدخل في باب الهذيان من شخص مدمن فقد عقله وأصبح عاطلا يجوب الشوارع والمقاهي, فلا تدع أحدا يبلغك أي رسائل أخري منه. بل رد علي من يجيئك بمثل هذا التهديد بأنك سوف تبلغ الشرطة بما يفعله, فإن لم يرتدع فعليك بالفعل أن تحرر له محضرا أو يأخذ تعهدا عليه بعدم التعرض لأي من أولادك وأحفادك, فلا سبيل مع أمثال هذا الشخص المتهور إلا المواجهة, عندما يتمادون في آذاهم ومواقفهم المخزية.
وأخيرا فإن عليك أن تحول ابتسامتك الحزينة إلي ابتسامة سعيدة كلها بهجة وسرور بعد كل ما حققته من نجاح في حياتك, وما قدمته لأسرتك من عطاء, ويكفيك أن أبويك قد رحلا عن الحياة, وهما راضيان عنك. أسأل الله لك هدوء البال وحسن التصرف والسعادة في الدنيا والآخرة, وهو وحده المستعان.