أنا
سيدة في الرابعة والعشرين من عمري, حاصلة علي دبلوم, ولا أعمل, وقد
تزوجت في سن الثامنة عشرة من شاب تقدم إلي أسرتي عن طريق الجيران, ويعيش
في حي قريب من المنطقة التي نسكن فيها, ولم تجد والدتي ما يعيبه, فهو
أكبر مني بست سنوات, وحاصل علي دبلوم متوسط, ويعمل في إحدي شركات
القطاع الخاص المعروفة وحالته المادية لا بأس بها, وكنت قد تركت مسألة اختيار من سأرتبط به لها
فهي المسئولة عنا بعد رحيل والدي, فوافقت عليه, وأبلغت أقاربنا بموعد
الخطبة, وطلبت منهم حضور الاتفاق علي الأثاث وخلافه من الأمور المتعلقة
بالزواج, وذلك كإجراء شكلي متعارف عليه في معظم الأسر خاصة في المناطق
الشعبية كمنطقتنا, وبعد أسابيع أقمنا حفل زفاف بسيطا, وانتقلت إلي بيت
الزوجية تغمرني سعادة كبيرة, وأقبلت علي حياتي الجديدة, وكل أملي في أن
تستمر فرحتي إلي الأبد, ووجدت من زوجي الحب والحنان, وعشنا معا الأيام
الأولي للزفاف في حلم جميل, ثم سرعان ما تبدلت أحواله, إذ لاحظت أنه يتغيب
كثيرا عن عمله, وشيئا فشيئا بدأ في تعاطي المخدرات والأقراص الممنوعة التي
يقولون عنها انها مدرجة في الجدول ولاتصرفها الصيدليات إلا بروشتات طبية من
أطباء متخصصين, ومع ذلك لا أدري كيف كانت تصل إليه بكميات كبيرة, وكان
يخفيها بين طيات ملابسه, وكلما وجدت بعضها ألقيه في سلة المهملات عسي ان
يراجع موقفه ويدرك خطأه, لكنه عرف انني التي آخذها من جيوبه, فضربني ضربا
مبرحا, وتعمد ايذائي وإهانتي, ولأنني أحبه فقد تحملت كل ما فعله بي,
واستمررت في محاولاتي لاثنائه عن تعاطيها, وذكرته كثيرا بغضب الله عليه,
وان هذا الطريق له عواقب وخيمة, فلم يلق بالا لما قلته, بل زاد عناده,
وتعاطي جرعات كبيرة جعلته ينام معظم الوقت, ولا يقوي علي الوقوف علي قدميه,
وطردته الشركة لتكرار غيابه وعدم أدائه عمله بنفس درجة الاتقان التي كان
يعمل بها من قبل.
وبعد عام واحد من الزواج أصبحنا بلا مورد رزق, وتراكمت علينا الديون, وقد
وضعت مولودي الأول الذي خرج الي الدنيا في ظروف صعبة وقاسية, وساءت حالة
زوجي النفسية ونصحته كثيرا بأن يبتعد عن هذا الطريق حتي لا يخسر نفسه
ويخسرنا, وسألته من أين له بالمال الذي يشتري به المخدرات وعرفت انه يحصل
علي هذه الحبوب من أصدقاء السوء الذين دفعوه اليها, وكأنهم يريدون القضاء
عليه.
ومر عام آخر طرق فيه باب العمل مندوبا للمبيعات في أكثر من شركة, ولم
يستقر في أي منها وتراكم علينا ايجار الشقة عاما كاملا, وبصراحة فإن مالك
العقار تحملنا كثيرا ثم أرسل الينا عدة انذارات بانه سيلجأ الي اخلاء الشقة
بالقوة, فما كان مني الا أن أخذت الأثاث في سيارة نقل, وذهبت به إلي شقة
تملكها جدتي لأمي بينما هو غارق في عالمه لا يعي من أمره شيئا, وقد لجأ الي
أسرته للإقامة معهم هربا من المطالب والدائنين.
وجدتي سيدة عجوز تقترب من سن التسعين, وتعيش في العقار نفسه بشقة أخري
ويسكن خالي في مسكن مجاور لها وكنت وقتها حاملا, فعشت وسط العائلة وأحاطني
الجميع بالرعاية, ما عدا زوجي الذي اكتفي بالمعيشة في بيت أبيه ولم يسأل
عنا ولو مرة واحدة وكنت أبادر دائما بالاتصال به لكي يجد حلا لنا.فاسمع
كلمات مقتضبة توحي بأنه فقد الأمل في الحياة المستقرة, ومر عام جديد لم
أشعر خلاله بأي مشكلات, وفي ظل هذا الجو المضطرب وضعت مولودي الثاني,
وعندئذ حدثت بعض المشكلات مع خالي لوجودي في شقة جدتي, واضطررت الي اغلاقها
علي عفش الزوجية والانتقال الي الشقة التي تسكن فيها والدتي واخوتي, ومنهم
شقيق يكبرني بعامين هو الذي يتولي أمور الأسرة, وما هي إلا أشهر معدودة
حتي صدر قرار بإزالة العقار الذي نسكن فيه, بعد أن أكدت لجنة هندسية أنه
ايل للسقوط, وخرج منه جميع قاطنيه إلا أسرتنا.
إذ اننا ليس لنا مكان نذهب إليه, وإذا تركناه فسوف يكون مصيرنا ببساطة هو
الشارع! وفجأة انهار جزء منه فأصابنا الرعب, وعلم خالي بأزمتنا وخشي أن
نطلب الإقامة في شقة جدتي التي يوجد فيها أثاثي فحرضها ضد والدتي لمطالبتها
بإخلاء الشقة, فتوسلنا اليها ان تمهلنا بعض الوقت حتي ندبر أمرنا, لكنها
أصرت علي موقفها, بل ودفعها خالي الي تحرير محضر لوالدتي في المحكمة, وردت
والدتي بمحضر مماثل لنعيش مشهدا داميا بين أم في التسعين وابنة في الخامسة
والستين وقد صدر قرار بحبسهما, ثم أخلي سبيل جدتي لكبر سنها, وظلت والدتي
في الحبس حتي تم الافراج عنها علي ذمة التحقيق.
اننا ياسيدي أناس بسطاء, وما كان لنا أن نصل الي هذا الحد من القسوة في
التعامل بسبب الإقامة في شقة خالية إلي حين ميسرة, وفي محاولة مني للبعد عن
المشكلات بأي ثمن حتي لو كان علي حساب راحتي, حاولت الصلح مع زوجي,
فحذرتني بعض صديقاتي من العودة اليه قبل أن تتحسن أحواله, ووفقا لشروط
محددة يلتزم بها لكي لا يتكرر ما حدث, وأعود الي والدتي محملة بأطفال جدد,
بينما رأت أخريات أن الحل هو الانفصال, وأن أعطيه ابنيه, وأحصل منه علي
نفقة شهرية مع حفظ حقوقي لديه, ولكن كيف السبيل الي ذلك, وكم يستغرق من
الوقت, ومن أين لي بأتعاب المحاماة, ثم في النهاية ما الذي يمكن أن أحصل
عليه ولو عن طريق المحكمة من شخص عاطل؟
إن والدتي ليس لها أي دخل سوي المعاش البسيط الذي نتقاضاه عن والدي,
ويساعدها شقيقي الذي يعمل في إحدي الحرف, وهو الذي يتولي شئوننا الآن.. وقد
تسألني عن أهل زوجي فأقول لك: إنهم لا يحركون ساكنا وقد احترنا معهم وهو
يعيش بينهم بمفرده, ولا يسأل عن ابنيه, ولا يراهما وإذا لجأت الي والدته
تطالبني بالصبر والتحمل! فهل من سبيل للخلاص مما أنا فيه وهل هناك حل لهذا
الوضع الشائك في عائلتنا يعيد المياه إلي مجاريها بين والدتي وخالي وجدتي
ويدرأ عنا الفضائح بعد أن صارت سيرتنا علي كل لسان في المنطقة؟
لقد كان والدي إماما وخطيبا في أحد المساجد, وربانا علي الالتزام الديني
والأخلاقي, ولم يسمع أحد لنا صوتا طول عمرنا, والكل يذكرنا بالخير وما حدث
من تفسخ في عائلتنا كان مفاجأة مدوية لمن حولنا لكن الفقر هو الذي أوصلنا
الي ما نعيشه من تناحر وتقاتل وما كنت أتصور أن يأتي اليوم الذي تتبادل فيه
والدتي وجدتي تحرير المحاضر لبعضهما في المحاكم, وهما في سن متقدمة حتي
ولو كان خالي هو السبب, وكثيرا ما اكذب ما تراه عيناي, اذ كيف يمكن ان تصل
علاقة الاشقاء إلي هذه الدرجة من التدني وسوء المعاملة, وما هو السبيل الي
استعادة الصلة المتينة التي كانت بينهم يوما ما؟
لقد سألت والدتي عن طباع خالي, وعلاقتها به منذ الصغر, فقالت لي كل خير
عنه فما الذي تغير؟.. هل غيرته زوجته؟ هل غيره أولاده, وهل تصرفات جدتي
طبيعية بعد أن وصلت الي سن التسعين؟.. أسئلة كثيرة تداعت إلي ذهني وأنا
أعيش هذه المأساة.
ولولا ايماني بالله ويقيني فيه لتخلصت من حياتي, وأجدني الآن عاجزة تماما
عن اتخاذ قرار صائب أواجه به هذه المتاعب التي لا حصر لها, فبماذا تشير
علي؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول: لا علاج للعقبات والأزمات التي تواجه الإنسان إلا باليقين في الله والرضا
بحكمه وقضائه والسعي إلي صنع السعادة من رحم المشكلات, ولا شك أن الصعوبات
التي تواجه الناس أمور نسبية, والنفس العظيمة تزداد عظمة بمغالبة ما
يعتريها من أزمات, أما النفس الهزيلة فتزداد سقما بالهروب والفرار منها.
وأذكرك بالمقولة البليغة عندما سأل الممكن المستحيل: أين تقيم؟ فأجابه: في
أحلام العاجز.. وأنت لست عاجزة, وإنما بما تملكينه من رجاحة عقلك وحسن
تدبيرك للأمور قادرة علي تغيير حياتك والتطلع إلي مستقبل أفضل, فمن خلال
دأبك واصرارك سوف تصلين مع زوجك إلي خريطة طريق ترضيك, وتوفر لابنيك حياة
مستقرة, فإما أن يتخذ خطوات إيجابية محددة بالالتحاق بعمل مستقر, وتوفير
شقة جديدة بالايجار بدلا من الشقة التي طردكم منها صاحبها. وعندئذ تعودين
إليه بشرط أن تؤجلي انجاب المزيد من الأطفال ويكفيكما ابناكما اللذان خرجا
إلي الدنيا في هذا الوضع المضطرب, ومادام يملك خبرة في مجاله, ولديه القدرة
علي العمل فلا خوف عليه, فالواضح أن اتجاهه إلي تعاطي الأقراص المخدرة هو
الذي أوصله إلي ما هو فيه.. ولعله استوعب الدرس وانتشل نفسه قبل أن يصل إلي
مرحلة من الادمان يصعب التغلب عليها, فالقوة الوهمية أو السعادة المؤقتة
التي يشعر بها من يتعاطي هذه الأقراص تزول بعد وقت قصير لكنه يكون وقتها قد
خسر صحته ووجوده!
وإما أن تنفصلا ويتكفل هو برعاية الولدين, بأن يأخذهما للاقامة معه, أو أن
يلتزم بمبلغ محدد يسلمه لك كل شهر للإنفاق عليهما, وفي هذه الحالة سيكون
أمامك متسع من العمر للزواج والاستقرار بشرط عدم التعجل واعمال الفكر
والعقل في كل خطوة مستقبلية وأما عن الشقة التي كانت السبب في المشاحنات
وتبادل المحاضر والاتهامات بين جدتك وأمك وخالك, فإنني أدعوهم إلي التدبر
قليلا, فكنوز الدنيا كلها لا تساوي شيئا إذا فقد الإنسان راحته النفسية,
فما بالنا بشقة بالايجار. واني أتعجب أن تكون هذه الشقة التي تحدثيني عنها
هي الحزام الناسف لعلاقتهم.. فالحقيقة أن خالك أخطأ أشد الخطأ بتحريض جدتك
علي طردكم من الشقة سواء فعل ذلك من تلقاء نفسه أو بإيعاز من زوجته طمعا
فيها, كما أخطأت جدتك بإنجرارها وراء ما يملي عليها, فإنقادت إلي خالك
وحررت محضرا لوالدتك.. وجميعهم في سن الجلال والاحترام!
والآن وبعد أن حدث كل ذلك فلا سبيل إلي رأب الصدع بينهم إلا بتجاوز ما فات
وبدء صفحة جديدة, يتكاتفون فيها كما كانوا صغارا, وليحفظوا لعائلتكم قدرها
ومكانتها في المنطقة التي تعيشون فيها, ولتترك جدتك لوالدتك الشقة إلي حين
تدبير شقة جديدة, فيرتاح الجميع ويعود إليكم هدوءكم المفقود.
وكوني حسنة الظن بالله يهييء لك من أمرك رشدا, واعلمي أن الشدة كحل ترين
به ما لا ترينه بالنعمة علي حد تعبير أزدشيرا فاتخذي من أزمتك منطلقا جديدا
إلي حياة أفضل بالتوكل علي الله والثقة فيه, وسوف تنقشع الغمة عنك وعن
أسرتك قريبا بإذن الله.