أقوي
سلاح يمكن أن تقابل به الزوجة ثورات زوجها هو الصمت, ثم التسامح
والتقارب والحوار. وأتذكر هنا قول أبي الدرداء لأم الدرداء إذا غضبت
فارضيني, وإذا غضبت أرضيك, فإن لم نكن هكذا ما أسرع أن نفترق. جلست إلي نفسي واستعدت شريط ذكريات أبي وأمي في السنوات الأولي لزواجهما,
وما آلت اليه أحوالهما فيما بعد, ثم أنظر الي نفسي فأجدني مرعوبة, والخوف
يملؤني, وغير قادرة علي اتخاذ خطوة واحدة إلي الأمام.. ولذلك أكتب اليك
بقصتي, فأنا فتاة في الثالثة والعشرين من عمري, تخرجت في كلية نظرية, ولي
أخ يصغرني بعامين, ويدرس في نفس كليتي, وأخت تكبرني بخمس سنوات, وقد نشأنا
في جو أسري غير مستقر انعكس علي حالتي النفسية, حيث كان أبواي دائمي
الشجار, ولم تعرف حياتهما طعم الاستقرار, ومازلت أتذكر أبي وهو يضرب أمي
علي وجهها عند كل خلاف, ويتطاول عليها, ويسبها, ويهددها بالانفصال, وكان
أهله واخوته يهينونها أمامه, وهو ساكت لا ينطق بكلمة واحدة, بما يعني انه
راض عما يفعلونه معها, غير عابئ بالآثار السلبية التي تتكون داخلها تجاهه,
والغريب أنها برغم اساءاته المتكررة ظلت مستسلمة تماما تتلقي الإهانات
والضربات واحدة بعد الأخري دون أي رد فعل من جانبها, ولم يكن لأهلها دور في
علاج الخلافات أو وقف الإهانات, وكانت كلما فاتحتهم فيما تعيشه من ذل
وهوان يردون عليها بأن المرأة يجب أن تحافظ علي بيتها, وتحتوي زوجها مهما
تلقي من متاعب.
ومر أكثر من خمسة عشر عاما علي هذه الحال, ثم حدث انقلاب مفاجئ في شخصية
أمي وعلاقتها بأبي, إذ صارت هي التي ترفع صوتها عليه, وتفتعل المشكلات معه
انتقاما منه علي سنوات العذاب التي عاشتها معه! واجتهدت كثيرا في معرفة سر
هذا التحول الخطير في علاقتها به حتي انهما تبادلا المواقف فلم أفلح, فلقد
صار أبي مغلوبا علي أمره, وصارت أمي صاحبة الأمر والنهي في البيت.
وتطور الوضع بينهما الي ما هو أسوأ من ذلك, فقد حدث انفجار هز أرجاء
المنزل, حيث تشاجر الاثنان ذات يوم, كما جرت العادة, وفوجئنا بأمي تطرد
أبي, وتدفعه إلي خارج المنزل, وتغلق الباب في وجهه وسط ذهولنا جميعا,
وبعدها انخرطت في بكاء مرير ووصلت بها الحال إلي الانهيار العصبي, ولازمتها
حالة تشنج لمدة طويلة حتي ظننا انها علي وشك الموت, ودخلنا في موجة نحيب
ألما وحسرة علي ما نحن فيه, والذي لم نعرف له سببا واحدا, ولم يسأل أحد
عنا, وحتي الجيران التزموا الصمت, وكأن شيئا لم يحدث.
واختفي أبي يومين كاملين ثم عاد الينا كسيرا حزينا, وسكن الدور الأرضي حيث
إن المنزل الذي نقطن فيه ملكنا, وبعد أسابيع أرادت أمي أن تعيد المياه الي
مجاريها مع أبي فنزلت لاسترضائه, وما أن رآها حتي بكي بمرارة, لما شعر به
من إهانة بعد طرده علي مرأي ومسمع من الجميع, فاعتذرت له, وصعد معها الي
الدور العلوي الذي نسكنه, ولسان حال كل منهما يقول: إن عليه ان يتحمل
الاخر, بينما الضغائن عالقة بقلب وعقل كل منهما, ومن الصعب ان يمحوها
الزمن.
وبعد الصلح بأيام أدت أمي العمرة, وفتحت صفحة جديدة مع أبي يغلفها الشكل
الاجتماعي المتماسك, أما الحب الذي جمعهما قبل الزواج فقد تبخر, ولم يعد له
وجود. وكم تمنيت لو انهما انفصلا منذ زمن بعيد, فلقد دمرانا نفسيا, وكنت
أنا أكثر اخوتي تدميرا, لحساسيتي المفرطة التي لم أستطع التغلب عليها,
وأصبحت أخشي علي نفسي من المستقبل في هذه الدنيا المتوحشة, وزاد من همي
ومتاعبي انني أعيش أسيرة المنزل منذ تخرجي العام الماضي, وليست لي صداقات
أو علاقات مع أحد, وأخيرا تعرفت علي شاب من خلال الفيس بوك, ودارت بيننا
أحاديث كثيرة خصوصا في السياسة, وقد شاركت في الكثير من المظاهرات خلال
ثورة الخامس والعشرين من يناير, وقال لي إنه معجب بتفكيري وآرائي ورجاحة
عقلي علي حد تعبيره, ثم صارحني بحبه مؤكدا انه صادق, وجاد في الارتباط,
ويريد أن يتقدم لي رسميا فطلبت منه ان نلتقي في مكان عام لكي اتعرف عليه عن
قرب, وأدرس طباعه وشخصيته, فعلاقات الانترنت غالبا ما تكون للدردشة وتبادل
الأفكار, وليست للتعرف من أجل الزواج, وفي الموعد الذي اتفقنا عليه اصطحبت
أختي معي وتحدثنا في أمور عامة, واستشعرت انه ربما يكون تعويضا لي عما
لاقيته من متاعب وآلام في أسرة يعيش فيها الأب في واد والأم في واد آخر.
وتكررت لقاءاتنا في وجود اختي, ولما تأكد لنا اننا نتبادل الحب والارتياح
فاتح أهله وهم من نفس المحافظة التي نشأ بها أبي, في أمر زواجه مني فأثنوا
علي اختياره, وجاءوا برفقته لطلب يدي, وقال ابي انهم أناس طيبون, ولم يتوقف
عند امكانياته البسيطة, واكتفينا بقراءة الفاتحة وأبلغني أنه يبحث عن
وظيفة أخري غير التي يعمل بها لكي تدر عليه عائدا أكبر من الذي يحصل عليه,
ولم يمر وقت طويل حتي تبين لي كذبه, فيما رواه لي عن أخيه الأكبر الذي قال
إنه متزوج, حيث عرفت انه لم يتزوج بعد, وبرر كذبه بخوفه من ان أتركه, فمن
العادات المعروفة في القري أن الأخ الأكبر هو الذي يتزوج أولا, ووعدني ألا
يلجأ الي هذا الاسلوب حتي ولو من باب المحافظة علي كما يدعي, وان يتوقف عن
تدخين السجائر ومرت أسابيع ثم رأيته وهو يدخن وأن وعده لي تبخر في الهواء,
فبعثت اليه رسالة علي هاتفه بأنني لن أحدثه أو التقي به إلا إذا توقف عن
التدخين, واغلقت هاتفي ثلاثة أيام فاتصل بأخي وسأله عما ألم بي, وعرف انني
اتخذت موقفا منه لن اتراجع عنه مهما فعل, فعاود اتصاله بي, ورددت عليه هذه
المرة فإذا به يبكي ويقول لي إنه كره السجائر ولن يعود اليها أبدا, فصدقته
من جديد, ثم التقيت به بعد أيام وكانت معه أخته الصغري, وهي تلميذة بالصف
السادس الابتدائي وقد أحببتها كثيرا, وفجأة في أثناء حديثنا قالت لي ان
اخاها عصبي جدا, وعندما يغضب لا يدري ماذا يفعل, لدرجة انه كسر باب إحدي
غرف منزلهم إثر خلاف مع أسرته, وأن الجيران كثيرا ما يسمعون صوته العالي,
وقد سمع كلامها التلقائي وهو مندهش. ولم ينكره, لكنه افتعل الضحك وقال إنه
لم يعد عصبيا منذ أن عرفني, فتناسيت ما قالته اخته, وتعاملت معه علي انه
صادق وأن هذه المسائل البسيطة هو قادر علي التغلب عليها لو انه يحبني حقا.
وبعدها بثلاثة أيام اتصلت به, فأحسست بنبرة الغضب في صوته, فسألته عما به
فقال: إن أختيه ذهبتا لزيارة جدتهما, وقد تأخرتا كثيرا عندها, وأصابه القلق
من ان يكون هناك مكروه قد ألم بهما, وعندما عادتا انهال ضربا علي الكبري
وهي تصغره بخمس سنوات, فعاد الخوف يسيطر علي من جديد ولم تفلح كلماته هذه
المرة في تهدئة روعي, وسيطر علي هاجس بأنني سوف أكرر تجربة أمي التي أسمعها
أبي كلاما معسولا ووعودا براقة قبل الزواج, ثم سرعان ما تبخرت كلمات الحب
لتحل محلها الإهانات والضرب والشجار علي مرأي من الجميع قبل أن يحدث
الانقلاب ويتبادلا الأدوار.
إن الشواهد التي أعايشها تبين لي ان فتاي نسخة من أبي ولكني أعود وأقول
إنه ربما يكون قد تغير, وإذا فسخت خطبتي له فسوف أخسره.. وقد أندم انني
فقدت من يحبني وهكذا تقتلني الحيرة ولا أدري ماذا أفعل فهل أجد لديك الحل؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
جاءت ثورة أمك الغاضبة ضد أبيك رد فعل طبيعيا للقهر الذي تعرضت له سنوات
طويلة ظلت خلالها مسلوبة الإرادة متحملة إهاناته هو وأخوته, وإنحنت للعواطف
العاتية التي كانت تهب عليها من حين إلي آخر حتي تبحر سفينة الحياة في هذا
البحر الهائج متلاطم الأمواج, ولأن لكل إنسان طاقة. فلقد خارت قواها,
وفقدت القدرة علي التحمل, فانفجرت في أبيك, ودفعته إلي خارج المنزل, فأذهله
تصرفها, وأدرك أن القط الهادئ الذي كيل له الضربات من قبل قد تحول إلي أسد
هائج لن يرضي من الآن بالذل الذي عاناه علي مر السنين, وعرف أباك خطأه,
فآثر السلامة فيما تبقي له من عمر, وقد اتخذت والدتك هذا الموقف علي غير
طباعها, ولذلك انهارت باكية, حيث إنها لم تتصور أن يأتي اليوم الذي تفعل في
زوجها ما فعله بها.. وعندما عاد إلي المنزل اعتذرت له, وسعت لنيل رضاه,
ولأن الجرح عميق. فإنه يتطلب بعض الوقت لكي يندمل, ويصفو الجو في بيتكم.
ولعل فيما حدث لأبويك العبرة والعظة لكل زوج متسلط, وكل زوجة متغطرسة,
فيسعيان إلي التوافق الزوجي لكي تمضي الحياة بالأسرة في أمان, ولو تأملنا
الخلافات الزوجية, ووقفنا علي أسبابها لوجدناها تندلع في أغلب الأحوال بسبب
أمور بسيطة من السهل تداركها والتغلب عليها بقليل من الهدوء والحكمة.
وأقوي سلاح يمكن أن تقابل به الزوجة ثورات زوجها هو الصمت, ثم التسامح
والتقارب والحوار. وأتذكر هنا قول أبي الدرداء لأم الدرداء إذا غضبت
فارضيني, وإذا غضبت أرضيك, فإن لم نكن هكذا ما أسرع أن نفترق.. نعم انها
طبيعة الحياة الزوجية التي لا تخلو من اختلاف وجهات النظر, والعاقل هو الذي
يسعي إلي رأب الصدع أولا بأول, فالحب قبل الزواج ليس مؤشرا علي نجاح
الزوجين في مسيرة الحياة فيما بعد, واستمرار هذا الحب يحتاج إلي مجهود كبير
حتي يظل واقفا علي قدميه, وتكمن المشكلة بين الطرفين دائما في عدم قدرة
أحدهما علي فهم الآخر, وأحيانا عدم قدرته علي فهم نفسه والتكيف مع الأوضاع
المعيشية المتغيرة, وعدم الإخلاص لعلاقتهما, والفشل في طرد ما يعكرها من
نفسيهما لكي تبقي وتستمر, وهي سلبيات يمكن تلافيها بكلمة طيبة من كل طرف
للآخر, قبل أن يسمعها ممن يحاول اقتحام حياتهما, فالكلمة الحلوة وسيلة
فعالة لها فعل السحر في النفوس.
ولو علم كل منا أن ما يرتكبه من شرور وآثام سيدفع ثمنه إن عاجلا أو آجلا,
ما أخطأ في حق الآخرين, فما بالنا لو كان هذا الآخر شريك حياته, ولعل ما
حدث لأبيك من انقلاب مفاجئ في شخصيته عبرة وعظة للجميع. فلقد ضغط علي
والدتك نفسيا حتي إنها ضاقت ذرعا بهجومه المتواصل عليها, وخرجت عن
استكانتها غير عابئة بنتيجة طرده من المنزل علي نحو ما حدث.. وقد أدرك
أخطاءه المتكررة في حقها, فلجأ إلي الصمت, وسلك طريقا وسطا للحفاظ علي
أسرته وبيته, وقد أحسنت والدتك حينما احتوته من جديد بتطييب خاطره,
والاعتذار له, والالتقاء معه علي طريق الوفاق بدلا من الصدام.
أما ما يتعلق بك فإنني لا أري مجالا للمقارنة بين حالة أبويك, وحالتك مع
فتاك, فلقد قامت علاقتكما علي غير أساس, ولم تدرسي شخصيته, ولا ظروفه ودرجة
استعداده لإقامة زيجة مستقرة, والواضح من ثنايا كلامه أنه غير صادق في كل
ما قاله لك, فهو لم يلتحق بأي عمل, وأوهمك أنه يبحث عن وظيفة جديدة, وليست
لديه إمكانياته تساعده علي أن يخطو أي خطوة ايجابية علي طريق اتمام
الارتباط, علاوة علي ما تكشف لك من طباعه الحادة, وعصبيته الزائدة, وتدخينه
السجائر.. والغريب انك تخفين كل ذلك عن أسرتك,أملا في تمرير هذه الزيجة
التي إن اكتملت فسوف تكون فاشلة, فعودي إلي رشدك, وقفي بعقلك الراجح
وتفكيرك المتزن أمام الظروف التي جمعتك به, والسلوكيات التي رصدتها خلال
فترة تعارفكما, وستجدين انك سوف ترتكبين خطأ جسيما إذا استمررت في خداع
نفسك باسم الحب, فما تعيشينه سراب سرعان ما سوف يزول عند أول عاصفة زوجية,
والمستقبل أمامك, وسيأتيك من ترتاحين إليه, ويكون جادا وقادرا علي تكوين
أسرة ناجحة.
اسأل الله لأبويك الوفاق الدائم, ولك حسن اختيار شريك الحياة, وهو وحده المستعان