أنا سيدة في منتصف الأربعينيات
من عمري, نشأت في أسرة متوسطة لأب يعمل مدرسا بالتعليم الإعدادي وأم ربة
بيت حاصلة علي دبلوم المدارس التجارية.
وتلفت حولي فوجدتني وحيدة أبواي اللذين أغدقا علي حبهما فصرت كل شيء في
حياتهما, وجاء أبي عقد عمل في إحدي دول الخليج فأخذنا معه, وعشنا هناك
سنوات طويلة, وكنا نزور مصر في الإجازات السنوية بانتظام فنقضي عدة أسابيع
بين أحضان بلدنا, ونسعد بجيراننا وأقاربنا ثم نعود إلي البلد العربي حيث
يواصل أبي كفاحه فيه, وانخرطت أنا في متابعة دروسي تحت رعاية أمي, وحصلت
علي الثانوية العامة بمجموع كبير, والتحقت بكلية الاقتصاد والعلوم
السياسية, ولا أستطيع أن أصف لك مدي سعادة أسرتي وفخرها بي, فلقد قرر أبي
العودة نهائيا إلي مصر حتي لا يتركني وحدي, وأقبلت علي الدراسة بحب وشغف,
ولم أسمح لأي شاب بالاقتراب مني, ولم أؤمن يوما بالصداقة بين شاب وفتاة..
وقبل أن يكتمل العام الدراسي رحل أبي فجأة, وانقلبت حياتنا رأسا علي عقب,
ووجدتني ووالدتي بلا سند ولا معين.. صحيح أننا لا نعاني مشكلة مادية, لكننا
افتقدنا الدفء الأسري والحنان الأبوي, وما أقسي هذا الحرمان, وقد دعوت
الله أن يزيل عنا الهم والحزن, ورحت أبتهل إليه أن يعوضنا عنه خيرا..
ومرت الأيام, ولاحظت أن أحد زملائي يحاول الحديث معي, فسألته عما يريد
فعرفني بنفسه بأنه زميل لي بالفرقة الرابعة, وأنه يرغب في أن يتقدم لخطبتي
راجيا أن أعطيه فرصة للتعارف, ومضي قائلا إنه الابن الوحيد لأبويه, وهما
يريدان أن يفرحا به.. سمعت كلماته باهتمام, وأحسست أن شيئا ما يشدني إليه,
ورددت عليه بأنني سأناقش طلبه مع أسرتي, وعدت إلي المنزل, ورويت لوالدتي ما
دار بيننا, فاستشارت خالي في الأمر, وحددت موعدا للقاء أسرته.. وقرأنا
الفاتحة, ثم تسارعت خطواتنا حتي انتقلت إلي عش الزوجية, ولم يخب إحساسي, إذ
وجدته إنسانا عطوفا وحنونا, وأنجبت منه بنتين تفرغت لتربيتهما, وزاد حماسه
للعمل والنجاح, فأقام مشروعا تجاريا ناجحا بمساعدة أبيه, وأبحرت سفينة
الحياة بنا هادئة.. وذات يوم شكا من بعض المتاعب الصحية, فأسرعت به إلي
الطبيب, وقبل أن ندخل حجرة الكشف فارق الحياة بالطريقة نفسها التي رحل بها
أبي, فانهرت تماما ولم أدر بنفسي إلا وأنا في المستشفي, ولم أعرف ما حدث
خلال يوم كامل غبت فيه عن الوعي, وعادت الأحزان تسيطر علي من جديد, ووجدتني
أرملة تلاطم أمواج الحياة في سن الشباب, لكني رفضت كل من تقدموا للزواج
مني, وكرست حياتي لابنتي, ودعوت الله أن يعينني علي تربيتهما, ولم يشغلني
أي شيء عنهما, فكنت أصحو في الصباح الباكر وأعد لهما طعام الإفطار, ثم
أصطحبهما إلي المدرسة, وأعود إليهما في مواعيد الانصراف حتي لا أتركهما
يسيران في الشارع بمفردهما فتتعرضان لمكروه, وأخذتا تكبران أمامي, وكلما
نظرت إليهما أجد البراءة في عيونهما.. لكن إحساسا غامضا سيطر علي بأن شيئا
ما سيحدث لنا, وظللت أدعو الله أن يزيل عني هذه الهواجس..
وتفوقت ابنتاي في كل مراحل الدراسة حتي المرحلة الجامعية, وتخرجت الكبري
قبل عامين في كلية الهندسة, وعرفنا الابتسامة لأول مرة منذ رحيل زوجي,
وتساقطت دموعي وأنا أحتضنها وأقول لها: الحمد لله علي نعمته وأسأله أن يتم
فضله علينا, وأكمل رسالتي معكما إلي النهاية.. وبعدها بأسابيع طرق بابنا
ابن الجيران وهو طبيب لم نسمع عن أسرته إلا كل خير, وأصدقك القول انني
ارتحت إليه, ولاحظت علامات الرضا علي وجه ابنتي, وقرأنا الفاتحة.. وبدأنا
في تجهيز عش الزوجية, ثم حدث ما كنت أخشاه, وما وصفته لك بالإحساس الغامض
إذ سقطت ابنتي علي الأرض مغشيا عليها فحملناها إلي المستشفي القريب من
منزلنا, وظلت تحت الفحوص ثلاثة أيام كاملة, ثم كانت الصدمة التي أحالت
حياتنا إلي جحيم, حيث أثبتت الأشعة إصابتها بورم خبيث في المخ, وأن حالتها
خطيرة, فغبت عن الوعي, وأفقت علي يد الطبيب المعالج وأنا أقول بنتي..
بنتي.. وحمدت الله أنها لم تكن موجودة لحظة تسلمي التقرير, وحاولت أن أكتم
أحزاني أمامها حتي لا تعرف حقيقة مرضها فتسوء حالتها النفسية.. ولم أذق طعم
النوم في تلك الليلة, لكني عقدت العزم علي إبلاغ خطيبها لكي يقرر ما إذا
كان ينوي استمرار خطبته لها أم أنه سيبحث لنفسه عن طريق آخر.. وفي الصباح
جاءنا للاطمئنان عليها فانتحيت به جانبا وأطلعته علي تقرير الطبيب فاغرورقت
عيناه بالدموع, وقال لي إنها نصيبه ولن يتخلي عنها مهما حدث, وأخذ الأشعة
مني وعرضها علي العديد من أساتذته الذين يعرفهم بحكم عمله, وراسل الكثير من
المستشفيات الكبري في الخارج عسي أن يجد علاجا لحالتها, لكنهم أجمعوا علي
أنه من المستحيل إجراء هذه الجراحة لأن الورم تمكن من المخ تماما, وفوضنا
أمرنا لله..
والمدهش حقا هو أن الابتسامة الرقيقة لم تفارق شفتي ابنتي حتي وهي تعاني
أشد الآلام, لدرجة إنني تعجبت من قدرتها علي التكيف مع مرضها الذي علمت به
عندما بدأت أولي جلسات العلاج الكيماوي.. وكلما حل ميعاد الجلسة أشفق عليها
من الآلام الجسدية والنفسية.. وصار واضحا أن العلاج لا يجدي نفعا فأخذت
تذبل شيئا فشيئا حتي حانت لحظة الوداع فوجدتها تمسك بيدي وتنظر إلي خطيبها
وتوصيه ألا يتخلي عني وعن أختها, ثم أغمضت عينيها إلي الأبد.. فصرخت بأعلي
صوتي.. يا حبيبتي.. ردي علي.. أنا أمك.. أنت روحي.. قولي أي حاجة.. وأنا لا
أصدق أنني لن أراها.. وخيم الحزن علي المنزل من جديد كما خيم عليه من قبل
عندما رحل زوجي, وزادت عليه حسرتي علي ابنتي العروس التي لم تفرح بشبابها,
وشحب لون أختها.. وانزوينا في ركن الحجرة ونحن نبتهل إلي الله أن يخفف عنا
ما نحن فيه..
ودق جرس الباب, فإذا بوالدة خطيب ابنتي الراحلة وقد جاءت إلينا للمبيت
معنا.. ومنذ تلك الليلة صارت أختا لي.. أفضفض إليها عما يجيش في صدري وما
عايشته من أهوال, وتبادلني هي الأخري الحديث عن المواقف الصعبة في حياتها..
فكلنا في الهم سواء..
ومرت شهور ثقيلة, ولم تفارق صورة الراحلة الغالية خيالي.. أراها معي في كل
خطواتي وتحركاتي, ويقظتي ومنامي.. وذات يوم زارتنا والدة خطيبها, وحدثتني
عن أن ابنها يريد خطبة ابنتي الأخري, وقالت إنه فكر كثيرا قبل أن يطلب
يدها, ويتمني أن توافق عليه, والحقيقة أن الموقف كان صعبا ولم أتخيل نفسي
فيه, لكني لم أجد بدا من أن أعرض عليها الأمر, وفاتحتها فيما جاءتنا جارتنا
من أجله, فإذا بها توافق وتقول إنه أفضل من غيره, فهو يعرف ظروفها وعايشها
وأختها الراحلة أفراحهما وأحزانهما منذ الصغر, وقرأنا الفاتحة وبدأنا في
شراء مستلزمات الزفاف..
ولم تمر أيام حتي تكرر السيناريو نفسه الذي حدث مع أختها, حيث شعرت ببعض
التعب, فانقبض قلبي خوفا من أن تلقي المصير الذي انتهت إليه أختها, ودخلنا
في دوامة التحاليل ثم الفحوص بالأشعة, وتبين أنها تعاني ضعفا شديدا في عضلة
القلب, وحذرنا الطبيب المعالج من زواجها, وقال إنه من الخطر علي حياتها أن
تحمل وتلد وتعاشر زوجها بصورة طبيعية, فأسقط في يدي ماذا أفعل؟.. هل
أصارحها بهذه الحقيقة المؤلمة؟.. وماذا أقول لخطيبها الذي لم يفق بعد من
صدمة أختها؟.. فلو أخفيت مرضها فإنني بذلك أخدعه, وفي الوقت نفسه قد أجني
عليها بالمصير الذي ينتظرها.. إنني أعيش صراعا داخليا يكاد يقتل ما تبقي
لدي من أمل في فلذة كبدي التي أسأل الله لها الشفاء والسعادة.. فبماذا
تنصحني؟.
>>.. وأقول لكاتبة هذه الرسالة: لم أجد عنوانا لرسالتك أصدق
تعبيرا من زهرة البنفسج لما تتميز به من العاطفة الممزوجة بالحزن الشديد,
فلقد جمعتك وابنتيك روح الحب والتعاون وإيثار الآخرين والسلام النفسي
والمشاعر الجياشة برغم الأسي الذي خيم علي حياتكن منذ رحيل زوجك, ثم تضاعف
بوفاة ابنتك الكبري, وكان الإيمان بالله دائما هو زادك في التغلب علي
الآلام, ومواصلة مشوار الحياة, فعشت آمنة مطمئنة راضية بما قسمه لك المولي
عز وجل, وانعكس هذا الهدوء الداخلي علي ابنتيك, فظلت الكبري تتمتع بنفس
الوداعة والابتسامة, وكذلك ابنتك الصغري التي شاء القدر أن تبتلي هي الأخري
باختبار المرض..
ولأننا لا نملك أقدارنا, فلا بديل أمامنا عن التسليم بقضاء الله عملا
بالحكمة القائلة لو اطلعتم علي الغيب لاخترتم الواقع, فالإنسان لا يعلم ما
تخبئه له الأقدار, وعليه أن يدرك أن ما قسمه الله له أخف كثيرا مما كان من
الممكن أن يحدث له, ولذلك ينبغي أن يكون أمره كله لله..
وليس معني ذلك أن نستسلم للمصاعب والآلام, وإنما يجب أن نواجهها بشجاعة,
فالحياة بدون تحديات حياة يجب ألا نحياها كما يقول سقراط.. والقدرة علي هذه
المواجهة صفة لا يتسم بها إلا الأقوياء, وأنت يا سيدتي قوية بالفعل وقادرة
علي التغلب علي أحزانك والتصرف بحكمة فيما يتعلق بابنتك وخطيبها, وإبلاغه
بالحقيقة كاملة من واقع التقارير الطبية التي يستطيع أن يعيد قراءتها بحكم
عمله كطبيب والتعرف علي مدي خطورة ما تعانيه من مرض.. وسوف تجدين منه
إصرارا علي المضي في زواجه منها حتي وإن لم تنجب خوفا علي حياتها, فلقد
لمست صدقه وسلامة نفسه في تصرفاته, وتركه أمره لله.. ومن كانت هذه شيمه فإن
الله سوف يبعث الطمأنينة في قلبه, وكلي يقين من أنه لن يتوقف عند مسألة
مرضها, وعدم قدرتها علي القيام بمجهود شاق, وربما يكشف الله عنها الضر
وتصبح سليمة معافية تماما, مصداقا لقوله تعالي: وإذا مرضت فهو يشفين..
وتحضرني واقعة عايشتها مع الدكتور علي خليفة أستاذ طب الأورام الراحل, حيث
زاره مريض بالسرطان, وكان في حالة إعياء شديدة ففحصه, وأجري له تحاليل
دقيقة كشفت عن أن المرض تمكن منه, وأنه بالمقاييس العلمية المتعارف عليها
لن يعيش علي قيد الحياة أكثر من شهرين, ولم يكن ممكنا أن يواجهه بهذه
الحقيقة المؤلمة, ففكر قليلا, وقال له: أنت بخير.. كل المطلوب منك أن تقضي
وقتا ممتعا وسط الطبيعة وتستمتع بكل ما فيها, وأن تكون واثقا من أن الله
سوف يشفيك, ووصف له بعض الأدوية لتخفيف آلامه, وخرج الرجل من عيادته علي
وعد بأن يزوره بعد شهرين لمتابعة الفحوص..
وتصور الطبيب أنها الزيارة الأخيرة, وأن المريض لن يعود إليه مرة أخري,
ولكن كانت المفاجأة أنه عاد إليه في موعده, فاندهش كثيرا, وأخضعه لفحوص
جديدة.. فوجد أن الخلايا السرطانية تتلاشي وتحل محلها خلايا سليمة, فقدرة
الله لا تدانيها قدرة, وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون..
هذا هو الإيمان يا سيدتي, فلا تحزني, وتأكدي من أن الله سوف يأخذ بيد
ابنتك التي ستسعد بزواجها وتتبدل أحوالها, وقد يذهب عنها المرض وتصبح لديها
ذرية صالحة, ومما لا شك فيه أنها بشخصيتها الوديعة قادرة علي تجاوز محنتها
إذا وجدت من يساعدها علي ذلك, فكما يقول أبو قراط: من المهم أن تعرف شخصية
المريض أكثر مما تعرف ما هو المرض الذي يعانيه, فالشخصية القوية التي
تتمتع بالإرادة القوية مرشحة دائما لاجتياز الصعاب..
والحقيقة المؤكدة أن لكل داء دواء, حيث يقول رسول الله صلي الله عليه
وسلم: سبحان الله ما أنزل من داء في الأرض إلا جعل له شفاء, فالطب والدواء
من قدر الله, ويختلف العلاج باختلاف الحالة, فهناك الأدوية الطبية, وهناك
الدعاء والصلاة والرحلات وتبادل الزيارات مع الأصدقاء.. إلي آخره..
والإنسان لا يشعر بالسعادة إلا بعد معاناة الشقاء, ولا يلمس الراحة
والطمأنينة إلا بعد التعب والمكابدة, ولا يعرف قيمة الصحة والعافية إلا بعد
المرض والآلام.. وهكذا لا تعرف الأشياء إلا بأضدادها..
وأنت يا سيدتي وابنتك عانيتما الكثير, وسوف تنعمان بالجائزة التي أعدها
الله للصابرين, فهو سبحانه وتعالي معهم, كما قال في كتابه الكريم.. وأسأله
أن ينزل السكينة علي قلبك وقلب زهرتك الجميلة وأن يكتب لها الشفاء.. والحمد
لله رب العالمين.