بريد الجمعة من جريدة الاهرام الجمعة 29/8/2014
أكتب إليك بعد أن قطعت مشوارا طويلا فى نفق مظلم، فلم أجد فيه نقطة ضوء مما تتناوله دائما فى ردودك، وتملكنى اليأس بعد أن فشلت فى تحقيق ما كنت أصبو إليه، فأنا سيدة من أسرة متوسطة، لم أحس بمشاعر الأبوة فى حياتي، فلقد كان أبى فظا، غليظ القلب، يعشق النكد، ويسعى إلى الشجار معنا أنا وإخوتى لأتفه الأسباب
ويستمتع بإشاعة الأجواء المتوترة فى البيت، وكنا نلمح الحيرة على وجه والدتي، وهى تحاول إطفاء الحرائق التى تشتعل كل لحظة، وترجوه أن يترفق بنا، لأننا لم نرتكب إثما ولا خطيئة تجعله دائم السخط علينا إلى هذه الدرجة، وفى كل مرة تحاول لفت نظره إلى أمر ما يثور عليها، ويطردها من البيت حتى ولو فى عز الليل، ويطلب منها ألا تعود إليه إلا ومعها مال من أهلها وإخوتها! وبرغم صغر سنى وقتها، فإننى كنت أتعجب لمطلبه وتصرفاته، فأى رجل هذا الذى يجبر زوجته على أن تمد يدها لأسرتها لكى تتفادى أذاه، وتحافظ على وجودها وسط أولادها، وما هو دوره إذن فى رعاية أبنائه، والحفاظ على كيان أسرته؟.. ولم تكن لوالدتى حيلة فى ذلك سوى الصمت التام إلى أن يفرغ شحنة الانفعال، ويهدأ من تلقاء نفسه. وكتمت أحزانها، فساءت حالتها الصحية والنفسية وأصيبت بالقلب، وحاصرتها متاعب القولون والمعدة.
وتمادى أبى فى افتعال الشجار معنا، فإذا وجد ورقة ملقاة على الأرض يطلق سيلا من السباب ضدنا، وإذا أراد شيئا ينادى علينا جميعا بالأسماء. فنهرول إليه، وكلنا رعب أن يكون أحدنا قد أخطأ وهو لا يدرى فيناله التوبيخ وأحيانا الضرب، فإذا به يطلب كوباً من الثلاجة الموجودة إلى جواره، ولو مد يده لأخذ الكوب دون أن يتحرك من مكانه!!
.. أما يوم نتيجة السنة الدراسية فحدث ولا حرج عن الصوت العالى و «الزعيق» والنكد طوال الليل والنهار لمجرد أن أحدنا نقص درجة أو درجتين، مع أنه لا يبدى أى اهتمام بنا خلال العام، ولا يتابع أحوالنا، ويترك هذه المهمة لأمنا المغلوبة على أمرها، وعندما يحل الليل لا يعرف النوم سبيلا إلينا بسبب شخيره المزعج. ولا يستطيع أى منا أن ينبهه إلى أنه ربما يكون مصابا بالجيوب الأنفية، ويحتاج إلى العلاج حتى نرتاح من هذا العذاب، حتى والدتى لم تجرؤ على أن تقول له ذلك خوفا من العقاب الذى قد يصل إلى حد الطلاق!
واتبع مبدأ «فرق تسد» فى معاملتنا، والتفريق بيننا كأشقاء، فكان يفضل أحدنا على الآخر، فيعامل واحدا بلين ورفق، ويعامل الآخرين بجفاء وشدة، ونجح فى بعض الأحيان فى شحن نفوسنا تجاه بعضنا، ولولا أننا استوعبنا أسلوبه، لصار كل منا فى واد، وانفك رباطنا، بعكس كل الآباء الذين يحاولون التوفيق بين أفكار ومواقف أبنائهم ليكونوا «عصبة واحدة»، وبلغ به «التفكير الشرير» مداه، فلجأ إلى التنصت علينا، فإذا دخل أحد غرفته، وتكلم فى الهاتف، فإنه يحاول أن يسمع كل كلمة يتفوه بها، ويفسرها على هواه، ولما جمعنا أنفسنا، وواجهناه بما يفعل ثار علينا ثورة عارمة، وقال إنه يخشى أن تفسد أخلاقنا، ويفلت عيارنا.. وفى كل المواقف والتصرفات كانت أمى تهوّن الأمر، وكان ينوبها من المعاملة السيئة ما تنوء به الجبال، وكنا نتنفس الصعداء عندما يخرج من المنزل بعض الوقت، فنحاول أن نسرى عن أنفسنا الهم الذى لا يفارقنا، وننادى بعضنا بأسماء دلع، ويتصادف أن يعود فجأة فيجدنا فى حالة من السرور والارتياح، فيستكثر علينا الفرحة، ولو للحظات، ويسمم أبداننا بالسباب والشتائم!
وفجأة مرض أبي، ولازم الفراش فترة قصيرة، ثم رحل عن الحياة، وبرغم ما كان يفعله بوالدتي، فإنها حزنت عليه حزنا شديدا، فالتففنا حولها، وتفانينا فى خدمتها لتعويضها عن تعب السنين والعذاب الذى تعرضت له على يد أبينا، فأدت فريضة الحج، ثم أدت العمرة فى العام التالي، وأعددنا لها رحلات كثيرة إلى المصايف والمناطق السياحية للترفيه عنها، وكنا نتصور أنها ستسعد بصنيعنا، فإذا بها تتذمر، وتطلب فى كل مرة إعادتها إلى المنزل، وداومت على الشكوى من الخروج، وترفض بإصرار تناول أى طعام بعيدا عن البيت، وتتأفف من المناطق الترفيهية التى نصحبها إليها، فإذا تركنا لها حرية الاختيار، فإنها ما إن تصل إلى المكان الذى حددته بنفسها حتى تصفه بالسيئ، ولجأنا إلى كل الحيل والوسائل التى تجعلها راضية لكننا احترنا معها وفشلنا فى إسعادها!
ومرت عشر سنوات، ونحن على هذه الحال المتقلبة، ثم حدث ما لم أتوقعه أبدا، وكانت الصدمة المفجعة بتحول أمى تماما، حيث تقمصت شخصية أبى بكل سلبياتها، وأصبحت نسخة طبق الأصل منه، وعدنا إلى سماع نفس الأسئلة والاملاءات التى عانينا الأمرين بسببها من أبى رحمه الله، «من الذى وضع هذه الورقة هنا؟.. ومن أبعد هذا الكوب من مكانه؟.. وأين اختفت الصينية الموضوعة على منضدة السفرة؟».. أما «كرسى الصلاة» فتصر على وضعه فى منتصف الشقة، ولا يستطيع أحد أن يحركه من مكانه، وفشلنا فى إقناعها بوضعه فى حجرتها الخاصة، أو أى مكان يعجبها، ولا يعرقل التحرك فى البيت!.. وصارت «التكشيرة» تلازم وجهها فى كل الأوقات، وهكذا تنفذ نفس تصرفات أبى التى كانت تنتقدها من قبل، ووصل الأمر إلى حد الطرد من البيت لمن لا يوافقها على ما تقوله!، وبالطبع فلا أحد يرفض لها طلبا، خوفا من رد فعلها، فنحن نحبها، ونخشى أن تغضب علينا.
أما المتغير الجديد فى حياتها الآن، فهو أنها تنكر معظم المواقف التى نعاتبها فيها فى «ساعة الصفا»، وتتهمنا بأننا نختلق أحداثا لم تقع، ومواقف لم تشهدها! وهكذا أصبحت حياتنا أسيرة لميراث النكد الذى لم يفارقنا يوما واحدا لأسباب غير مفهومة، فأمى تقلب »المنضدة« دائما على رءوسنا فى كل شيء، ونحن نصاب بخيبة أمل كلما حاولنا انتشالها من الدائرة التى وضعت نفسها فيها، وقد تكلمنا معها كثيرا، وعقدنا مناقشات لا حصر لها، لكنها «حوارات الطرشان»، فالنتيجة هى الإنكار، وتغيير الأقوال، واستدعاء الماضى بكل أحزانه ومآسيه وبنفس ردود الأفعال، والحجج، والخصام، والنكد الذى لا نهاية له.
لقد تعبنا نفسيا وصحيا، وضاقت بنا السبل للوصول إلى تفسير لما يحدث فى حياتنا، أو إلى حل يضع حدا لمتاعبنا، ويعيد إلينا أمنا الحنون التى نخشى أن نفقدها إلى الأبد.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
أخطأ والدك، رحمه الله، المنهج الصحيح فى تربيتكم بزرعه الرعب فى قلوبكم، وإهانتكم المستمرة بلا ذنب، وتفريقه بينكم فى المعاملة، وحسنا أنكم أدركتم ذلك، فجمعكم نقاء السريرة، وروح الود، واحتوتكم أمكم بما آتاها الله من الصبر والحكمة ونفاذ البصيرة، برغم ما لاقته من متاعب وأهوال وصلت إلى حد طردها من المنزل، وإذا كان والدكم لم يدرك خطأه الجسيم تجاهكم حتى رحيله عن الدنيا، فإن على والدتكم أن تعيد النظر فى موقفها منكم، وتنفض عن نفسها شخصية «الأب النكدي» التى تتقمصها الآن. ظنا منها أنها الوسيلة المثلى للسيطرة على البيت والأبناء، وهى تفعل ذلك من منطلق أن الأبناء مهما كبروا فى السن، فإنهم يظلون فى نظر آبائهم وأمهاتهم كالأطفال الصغار من حيث التوجيه والسمع والطاعة، وهذه هى الفلسفة التى اتبعها أبوكم قاصدا بها التربية السليمة وليس الإيذاء كما تتصورون!
وأسوق إلى والدتك هذه القصة الجميلة، عسى أن تستفيد منها، فى تعاملها معكم، وتتخلى عن «الميراث البغيض» من النكد الذى لا يعرف حدودا.. وهى تروى حكاية أب كبير فى السن، ويعيش مع أولاده بعد رحيل زوجته، وكان معروفا بقوته وهيبته، وعندما كبرت سنه أدركه الضعف، ولم تعد له سيطرة على أبنائه الذين تزوجوا، وأنجبوا أولادا وبنات انتشروا حوله فى أرجاء المنزل، وراح يراقب تصرفات أبنائه تجاه أولادهم، فأدرك فداحة ما ارتكبه فى حقهم، عندما وجد أن معاملتهم لهم تتسم بالود واللين والحوار، ويرشدونهم فى هدوء، ويبدون الملاحظات على تصرفاتهم بغير توبيخ ولا شتائم،.. وعندئذ بعث اليهم برسالة قال فيها: «العادات تسوقنا غالبا إلى الخطأ، فلقد كنت شديد القسوة عليكم، ليس لأنى لا أحبكم، فأنتم أغلى من أنفاسى التى تشق صدري، ولكن العرف والعادات كانت تقول: الأب القاسى هو الوحيد الذى يرى أبناءه يحققون النجاح، أما الأب الحنون، فهو فاشل يسوق أبناءه إلى الفشل، ولذلك نهجت نهج القوة، متوقعا أن ذلك أنفع لكم، وأفضل لتربيتكم، لكن الآن ، وبعد كل هذا العمر أجدنى قد أخطأت، وأشعر أنكم تغرسون خناجركم الحادة فى صدرى كل يوم، عندما أراكم تقبلون أبناءكم وتترفقون بهم، فوالله قلبى يتقطع ألما، وأود أن أصيح وأقول لكم : «وأنا أيضا كنت ومازلت أحبكم، فلماذا عندما يقبل أحدكم ابنه ينظر إليّ نظرة كالخنجر المسلول ليطعن بها قلبي، وكأنكم تقولون لي: تعلم وافهم كيف ينبغى أن يتعامل الآباء مع الأبناء.. أولادي: ليس هذا زمننا، ولن يعود شئ فات أوانه، فلا تعلموا شيخا شيئا لم يعد ينفعه، وإنى أطلب منكم العذر والسماح». وتأثر الأولاد برسالة أبيهم أشد التأثر، وانخرطوا فى بكاء حار لأنهم أساءوا الظن به، وراحوا يقبلون رأسه ويديه وردوا عليه برسالة جماعية بأنه لولا الله ثم تربيته لهم، ما أصبحوا رجالا ناجحين، واحتضن الشيخ الكبير أبناءه وأحفاده وسيطرت عليهم دموع الفرحة بعودتهم إليه، وعودته إليهم بكل المشاعر الحلوة، والأحاسيس الجميلة، وما هى إلا أسابيع معدودة حتى فاضت روح هذا الأب العظيم إلى بارئها وقد ارتاحت نفسه، وأيقن أبناؤه الحقيقة الغائبة عنهم!
فترفقوا ياسيدتى بوالدتكم، وتذكروا أفضالها عليكم حتى صار لكل منكم شأن كبير فى حياته وعمله وأسرته، وقربوا المسافات معها، واستجيبوا لما تطلبه منكم بغير تذمر أو تأفف، فهى مطالب بسيطة لكنها تمثل بالنسبة لها شيئا ثمينا، وبمرور الوقت سوف تصلون معا إلى «صيغة توافقية» ترضى الجميع، فتشعر هى بالأمان والطمأنينة، وتصلون أنتم إلى الهدوء وراحة البال، وأرى أن الطريق نحو استعادتكم لها، كما كانت دائما هو امتداحها والثناء عليها، والإقرار بفضلها، والتعامل معها بلين ورفق، وهى فى سن الجلال والاحترام، وأجدنى أردد قول الشاعر خليل مطران:
نعمت الأم أنجبت خيرة الأولاد
للبر والتقوى والوفاء
فأنتم مدينون لها بما وصلتم إليه من نجاح، وتذكروا عطاءها لكم، وصنيعها من أجلكم على مر السنين، وتحمّلوها فى كبرها، يهيئ الله لكم من أمركم رشدا، ويثيبكم من فضله وكرمه بعيدا عن ميراث النكد الذى يسيطر على تفكيركم، وادعوا الله لأبيكم بالرحمة والمغفرة، وياحبذا لو اجتمعتم يوما كل أسبوع مع أمكم فتعترفون بفضلها عليكم، وتسترجعون مواقفها الجميلة فى صغركم، فتشعر بالراحة وتطمئن إلى أنها محفورة فى قلوبكم فتزداد اطمئنانا، وتعم السعادة على الجميع والله المستعان.