أتابع بابك الشهير، وأتأمل تجارب أصدقائه بكل ماتحمله من هموم وآلام ودروس وعبر، ووجدتنى أكتب إليك قصتى الطويلة مع المعاناة التى مازلت أتجرع كأس مرارتها، فأنا سيدة فى الثالثة والستين من عمرى، تزوجت بعد السنة الثانية فى كليتى من شاب قريب لوالدتى رأت فيه زوجاً مناسباً لى، وأتممنا إجراءات الزفاف، وسافرت معه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان يعمل مدرساً فى إحدى جامعاتها.
وطلب منى أن أؤجل الدراسة إلى حين انتهاء مهمته هناك، وعودتنا إلى مصر، فوافقت وأقبلت على الحياة معه بكل حب وارتياح، وأنجبت ابنى الأول، ثم اقتضت ظروف عمله أن ننتقل إلى كندا، فشجعته، وسافرت معه إليها، وهناك وضعت ابنى الثانى، وبفارق عامين بينه وبين شقيقه، وجاءتنا الأنباء من القاهرة بوفاة والده، فحزنا لرحيله كثيراً، فلقد كان رجلاً طيب القلب، ولمست فيه روحاً جميلة فى الفترة القصيرة التى تعاملت معه خلالها، وبعد ست سنوات عدنا إلى مصر، فذكرته بوعده لى أن أستكمل دراستى، فوافق على مضض، وأتممتها بنجاح، وجاءتنى فرصة عمل فى جهة دولية مهمة بمصر، فثار علىّ ثورة عارمة، وطالبنى بالتفرغ للبيت، وهكذا دبت الخلافات بيننا، وكان ابنى الأكبر وقتها قد بلغ عمره أحد عشر عاماً، وذات يوم فوجئت بعد عودتى من العمل، بأن الولدين لم يحضرا من المدرسة، وعرفت أن زوجى أخذهما إلى مكان غير معلوم، فخرجت أبحث عنهما فى كل مكان، وأنا مذعورة مما حدث، ولم أتمكن من الوصول إليهما، وعشت فترة عصيبة لم أذق فيها طعم النوم، وطرقت أبواب أهله وأهلى، ورجوت الجميع أن يتدخلوا لإنقاذ ولدىّ اللذين ليس لى فى الدنيا غيرهما، وعرفت بعد جهد كبير أنه نقلهما للإقامة مع شقيقه الأكبر، حيث كان صاحب تأثير كبير عليه، ولم يرزق هو وزوجته بأولاد، وعاش ولداى معهما فى محافظة ساحلية، ونقلهما أبوهما إلى مدرسة خاصة غير المدرسة التى كانا يدرسان بها، ورجوته كثيراً من خلال الأهل والمعارف أن يدلنى على مكانهما. أو يذكر لى اسم المدرسة التى يدرسان بها، وأننى على استعداد للسفر إليهما فى أى مكان لكى أطمئن عليهما، وأتواصل معهما، فلم يستجب، وفشل كل من تطوعوا للتدخل بيننا فى إنهاء هذه الأزمة، فسألت فى جميع المدارس الخاصة حتى وصلت إليهما فى مدرسة معروفة، ولكن ناظرها منعنى من الدخول، فوقفت على بابها فى انتظار خروجهما وإذا بالناظر يأخذهما من باب آخر إلى بيته، وماكان له أن يفعل ذلك إلا بالاتفاق مع أبيهما، فذهبت إليه فى مكان عمله لأسأله عما فعل، وكيف وصل به الأمر الى هذا الحد دون أن يعبأ بما يترسب داخل نفسية الطفلين، أو أن يحافظ على صورتنا أمام الآخرين. وما إن رآنى حتى شن علىّ هجوما عنيفاً، ولم أتوصل معه الى أى نتيجة بشأنهما، وزاد من حدة موقفه تأثير شقيقه عليه، وكذلك والدته التى لم تعجبها أشياء كثيرة فى تصرفاتى، وظللنا على هذا الوضع سنوات طويلة.. محاولات كثيرة من جانبى لأخذ ابنىّ، أو على الأقل التواصل معهما، ومراوغات لا حصر لها من جانبه هو وأهله، وكان كلما لاحقته بطلب رؤية ولدىّ، ولا يجد مفراً من الاستجابة لى، يرسل معى مندوباً من شركته، حيث أراهما بضع دقائق، ولا أستطيع أن آخذهما لبعض الوقت، بالرغم من أنهما كانا وقتها فى سن صغيرة، ومن حقى حضانتهما، وكنت أدرك تماماً أن بعدهما عنى سوف تترتب عليه عواقب وخيمة، وأن ذلك سوف ينعكس عليهما بأثر سلبى، ولكن ما باليد حيلة، وحدث ماتوقعته، فلقد ملأ ذهنيهما بكراهيتى، وأننى لست حريصة عليهما، وأن عمهما وزوجته هما اللذان يخافان عليهما، ويحافظان على مستقبلهما، وانفصلنا بعد استحالة عودة الأمور بيننا إلى ماكانت عليه، وتزوج هو من سيدة أخرى، وبعد فترة استقلت بمنزل منفصل فصار هو يعيش مع الولدين بعد أن أخذهما من عمهما ، وتعيش هى مع أهلها، وكان ابناى قد أنهيا المرحلة الثانوية وانتقلا إلى الجامعة، وعرفت فيما بعد أن ابنى الأكبر تعثر فى الدراسة، وأن الثانى هو الذى تخرج فى كليته، والتحق الاثنان بشركة الكمبيوتر التى يملكها أبوهما، والتى أنشأها بعد أن أغلق مشروعاً آخر لم يحقق النجاح، وكلما استفسرت عن شىء يخصهما أجد إجابات غير واضحة، وخصوصاً فيما يتعلق بإبنى الأكبر، ولم أفلح فى معرفة حقيقة ما يمر به من ظروف، أما ابنى الأصغر، فاتصل بى بعد تخرجه قائلاً إنه فى حاجة إلىّ، ففرحت كثيراً، وتصورت أنه سيعود إلى أحضانى وطلبت منه أن يزورنى على وجه السرعة، وكنت فى لهفة وشوق لمعرفة أخبارهما، فإذا به يريدنى أن أعطيه مالا لكى يتزوج، ويبدأ مشواره فى الحياة، وكان هذا هو كل مايريده منى، ولم يذكر شيئاً عن الأموال التى يملكها أبوه، وشركته التى تدر عليه دخلاً كبيراً، وبعدها سافر إلى الخارج، ولم يحدثنى بكلمة واحدة، ولم أعرف له عنوانا برغم أنه وعدنى أن يكون على اتصال بى، فكان كل مايهمه هو أن ينال طلبه، ثم يختفى، ومن خلال متابعتى أخباره عن طريق الأقارب، عرفت أنه يدير الآن شركة فى مجال الكمبيوتر بدولة عربية، وأعتقد أنه تزوج واستقرت أوضاعه هناك، أما ابنى الأكبر فمازال وضعه غامضاً، وقيل لى إنه مريض نفسياً، ولم يكمل دراسته، ولكن لم يتسن لى أن أعرف حقيقة ظروفه، الأمر الذى يقتلنى يومياً، وقد تستغرب لذلك ـ ياسيدى ـ لكنها الحقيقة، فلم أترك باباً، إلا وطرقته من أجله، لدرجة أننى طلبت من أحد أصدقاء زوجى، وهو أستاذ فى الجامعة، ويعرف كل التفاصيل عن أسرتنا بحكم صداقتهما الوطيدة أن يتدخل كوسيط بيننا لمد جسور الصلة مع ابنى الأكبر الذى لا يغادر المنزل، ونقل الرجل رغبتى إليه، فرد بقوله : «ابنها موجود أمامها اسألوه إن كان يريد رؤيتها».. فأخذت رقم هاتف ابنى واتصلت به، وسألته عن أحواله، وأبلغته أننى أريد أن أراه فصدمنى بقوله : «أنت بتشهرى بى»، ثم أغلق الهاتف، وكلما اتصلت به، وجدت «البريد الصوتى» فأترك له رسالة، وبالطبع لا يرد علىّ، وبرغم ذلك لم تضعف عزيمتى، ورحت ألتمس أخباره عبر «الفيس بوك» وأدهشنى ألا أجد اسمه ضمن العائلة التى يسجلها أبوه على حسابه الشخصى فى شبكة التواصل الاجتماعى، وكنت أجد فى هذه الوسيلة فرصة لمعرفة أحوال ابنى، لكن الجميع رفضوا صداقتى ولم يعد بإمكانى التواصل معهم عبر الانترنت !
لقد سلب والدهما حريتهما ووصلت حالة ابنى الأكبر إلى ماوصلت إليه من تدهور لكنى مستعدة لأن أبدأ المشوار معه من نقطة الصفر، إذ يشغلنى كثيراً برغم أنه تعدى الآن سن الأربعين، وإننى على استعداد لأن أتجاوز مرارة السنين الطويلة التى عشتها بعيداً عنه هو وشقيقه وقد بعثت إلى والدهما برسائل كثيرة، ولم يرد على أى منها، وقلت له فيها «إننا جميعا مخطئون، وكان فى إمكاننا ببعض التنازلات البسيطة أن نتجاوز الخلافات، وأن نربى ابنينا فى أحضاننا، فلا شىء فى الدنيا يعادل أن ينشأ الأولاد نشأة مستقرة بين أبويهم».. لكن قلبه لم يلن، ومازال كما هو لم يتغير برغم انه تعدى سن السبعين.
نعم ياسيدى.. هذه هى الحقيقة التى لا يدركها الآباء والأمهات إلا بعد فوات الأوان، وربما لا يدركونها أبداً، فيغادرون الدنيا، وقد تركوا خلفهم أبناء مقهورين يعيشون بعقدة مافعله والداهم بهم، ولو أيقن الجميع بالنتيجة السلبية لتعنتهم وعنادهم، وهم يتنازعون الأبناء ما ارتكبوا هذه الحماقات، ولن تفلح أى قوانين فى حل هذه المعضلة سواء كان الحاضن الأب أو الأم.. فكما أن هناك آباء كثيرين يشكو كل منهم من أن الأم أخذت الأولاد، ولم تلتزم بقانون الرؤية الذى يتيح للأب رؤية أبنائه كل أسبوع، فإن هناك أمهات كثيرات يواجهن ماهو أصعب من ذلك، ولم يفلح أى قانون فى تمكينهن من رؤية أولادهن كما حدث معى، فالألاعيب كثيرة، وثغرات القوانين متعددة.. وإننى مازلت أتعلق بالأمل فى أن يعود إلىّ ابناى، وأن أتمكن من التواصل مع ابنى الأكبر، وكل ماأريده هو إتاحة الفرصة لى لاحتوائه، والوقوف إلى جواره فى الظروف التى يمر بها، فليس لى ذنب فى موقف أبيهما المتقلب الذى اتخذه عندما كنا فى سن الشباب، وأذاقنى الأمرين بإبعادهما عنى.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول :
توقفت عند جملتك المعبرة عن المشكلة برمتها فى رسائلك الأخيرة إلى والد ابنيك بقولك «كلنا مخطئون» فلقد كان عليكما منذ البداية تقريب المسافات بينكما، وعدم الاندفاع فى تصرف طائش سوف تدفعان ثمنه مدى الحياة، إذ ماذا كان يضيره لو وافق على خروجك إلى العمل فى الوظيفة التى أتيحت لك وقتها، مادمت ستوازنين بين عملك وبيتك ورعاية ابنيك، فهذا هو التصرف السليم الذى غاب عنه، ولم يدرك أبعاد صنيعه هذا عندما حرمك من رؤية ابنيك، بتهريبهما ـ على حد تعبيرك ـ إلى عمهما الذى أخطأ هو الآخر بقبول هذه المهمة حتى لو لم يرزق باولاد، حيث كان باستطاعته أن يتدخل لإزالة سوء التفاهم العالق بذهنيكما، واعادة حياتكما إلى وضعها الطبيعى، ولا مانع من أن يسهم هو وزوجته فى تربية ابنيكما، لكن ذلك لم يحدث، ولم يكتف زوجك بما صنعه، وإنما تعمد الاساءة إليك امام الآخرين، فعلم بقصتكما من يعملون معه فى شركته، حتى ناظر المدرسة الخاصة الذى من الواضح أنه كانت تربطهما علاقة صداقة دفعته إلى القيام بمهمة يأباها أى «رجل تربوى» بإخفاء ابنيك بعيدا عنك!.
ولم تقتصر نتيجة ما فعله على حرمانك منهما فقط، وإنما امتدت أيضا إلى التركيبة النفسية لكل منهما، فانعزل الأكبر عن الآخرين، وتعثر فى دراسته، وصار أسير البيت لا يغادره بالرغم من توافر فرصة عمل له فى شركة أبيه، ولم يتزوج، ولم يرتبط بأى علاقات مع الآخرين، ويزيد على ذلك أن أباه مازال يصور له بعد كل هذا العمر أنك تسيئين إليه أمام الآخرين... أما ابنك الاصغر، فسافر إلى الخارج، وابتعد عن الجميع... هذا ما جناه والد ابنيك على مدى ثلاثين عاما، علاوة على افتقاد الدفء والاستقرار الأسرى الذى ينشده كل الازواج والزوجات.
وبرغم أن الشريعة والقانون حددا مسئولية حضانة أبناء الطلاق، ورعايتهم النفسية والمادية، إلا أن هناك من تستبد بهم الرغبة فى إيذاء شركاء حياتهم أو الانتقام منهم، فيأخذ الأب الأبناء بعيدا عن أمهم لسنوات طويلة، قد تمتد إلى النهاية ـ كما فى حالتك ـ وعندما يبتعد الابن عن أمه، فإنه يصاب بالتشوش النفسى، وتظل هى تصارع كل ما حولها من أجل الوصول إليه، ومع مرور السنين يبقى ألمها فى داخلها إلى آخر يوم فى عمرها.
ولا سبيل إلى تدارك الآثار السلبية لانفصال الابوين إلا بأن يعيا ضرورة الاتفاق على ما يتعلق بمستقبل الأبناء، الذين ينبغى تنشئتهم تنشئة سليمة تتسم بالصحة النفسية، والقيم الأخلاقية، واحترام الوالدين، وعدم اهانة أحدهما الآخر، حتى لا ينكسر رمزا «الأمومة» و «الأبوة» لديهم، وأن يتواصل الطرف الحاضن مع الطرف غير الحاضن بكل احترام وود، وأن يتذكروا دائما الوسيلة الإلهية «ادفع بالتى هى أحسن».
لقد حكم الإسلام فى حالتك حكما حاسما بقوله تعالى (لا تضار والدة بولدها، ولا مولود له بولده) فلا يجوز شرعا أن يقع ضرر على الأم بسبب طفلها، وهى التى تحملت أشهر الحمل ومتاعب الرضاعة والفطام والرعاية والاهتمام، ولا ننسى أن تشويه كل من الأب والأم الآخر، يجعل الابن يفقد الرمز والقدوة، وقد يؤدى به إلى أن يكون معاديا للمجتمع بأثره، حيث أن مجتمعه الصغير المتمثل فى أسرته كان معاديا له، فمن يهرب بأولاده عليه أن يدرك أن الكراهية التى ينشأون عليها لا توجه إلى شريك الحياة الذى تركه، وإنما ستكون (طلقة رصاص) نحو الأبناء، وستظل تحت جلدهم طوال الحياة.
ومع أن العلاج الصحيح لمشكلتك يا سيدتى قد فات أوانه، فإننى أرى فى استعدادك النفسى للبدء من نقطة الصفر فى رعاية ابنك الأكبر، ضوءا جديدا يحيى الأمل فى انتشاله من براثن المرض النفسى، والتخلص من حالة العزلة التى فرضتها عليه الظروف التى تربى فيها، ولعل والد ابنيك يعيد حساباته، وهو فى هذه السن المتقدمة، ويدرك الخطأ الفادح الذى وقع فيه قبل أن يلقى الله عز وجل، فربما تمتد جسور التواصل معهما من جديد، وتنقشع السحابة الثقيلة التى غطت سماء حياتكم كل هذه السنين، والله على كل شىء قدير.